الصديق والعدو: التدهور، الانحطاط، والخلاص

Picture1.png

أرنون غرونبيرغ

سعيد الجريري (باحث زائر في معهد هيغنز للتاريخ الهولندي)

 تُشخَص ثنائية "الصديق - العدو" في الفكر السياسي المُعاصر، بوصفها واحدة من أهم الثنائيات المُحركة للعلاقات، واشتعال الحروب أو افتعالها، في سياق ما يُعرف بصناعة العدو، وفق مفاهيم يشتغل عليها الساسة، بالتوازي مع ثنائية أخرى "نحن - هم" التي يذكي مفعولها اليمين المتطرف. ولعل كتاب "الصديق والعدو" للباحث أرنون غرونبيرغ - وهو واحد من أشهر الكتاب الهولنديين، سواء في الداخل أو في الخارج، وحائز على جوائز عديدة، وترجمت أعماله إلى أكثر من ست وعشرين لغة - يقدم مُراجعة فكرية جادة للمفهوم بحسب السؤال المحوري الذي كرّسه المفكر السياسي الألماني كارل شميث (1985-1888) في كتابه"مفهوم السياسي"؟

 لكن أليس التاريخ البشري عبارة عن سلسلة من الكوارث التي نُعطيها، بعد ذلك، معنى؟ وهل نُدرك "من نحن؟" من خلال ما حدث لنا من عبودية واضطهاد؟ وهل يؤدي ذلك إلى الإيذاء والعدوان؟ يرى غرونبيرغ ذلك بإلحاح، في كتابه المثير للاهتمام، منسجماً مع كل من الفيلسوفين: الألماني والتر بنيامين، والفرنسي جاك دريدا اللذين يريانِ أهمية أن تظل جرائم الذاكرة متقدة، في سياق الصفح - كمفهوم مهاجر من الإيمان إلى السياسة - للحيلولة دون تدفق جرائم الماضي. ولئن كان غرونبيرغ يعتقد ببساطة ألا واقعية لفكرة أننا نعيش الآن في أسوأ المراحل، فإن ذلك الاعتقاد لا يزيح التساؤل عما إذا أصبحت الحضارة الغربية في حالة انحدار، بعد أن أدمن الغربيّ الازدهار وبات يشعر بالقلق على الراحة والصحة والسعادة، فهو يتجنب أي شكل من أشكال الخطر الجسدي، وتتوافق قناعاته مع تفضيل الحوار على العنف.

 يتألف الكتاب من قسمين رئيسين، يُحيطان بسؤالٍ رئيس انبنى عليه الكتاب باعتباره إجابة مفصلة تعيد قراءة ذلك السؤال ومساءلته من جديد، في ضوء التحولات والمتغيرات التي حدثت منذ أن طُرح أول مرة عام 1927، إذ اتخذ غرونبيرغ سؤال كارل شميث: هل بالإمكان أن يوجد الإنسان بلا عدو؟ مدخلاً جدلياً، تليه الإجابة المقترحة التي تشكل متن الكتاب متضافرةً في خمسة مباحث:

  • الإنسانية وحلفاؤها
  • العنف والمجتمع والتاريخ
  • ما هو السياسي؟
  • اللاهوت
  • موت العدو

 الكتاب مقاربة جادة لعمل شميث، ولاسيما كتابه "مفهوم السياسي"، حاول فيها المؤلف صياغة إجابات على التساؤلات الجوهرية التي طرحها صاحب نظرية العدو في السياسة، وأحد أهم فلاسفة السياسة الألمان في القرن العشرين والمنظر القانوني المثير للجدل، الذي تقوم نظريته السياسية على أساس التمييز بين الصديق والعدو، باعتباره معياراً حاسماً في تحديد "السياسي"، فوقف غرونبيرغ على أسئلة عديدة مثيرة للاهتمام، محورها: ما السياسي؟ ما الدولة؟ ما العداوة السياسية؟ وهل الحرب نتيجة العداوة؟

 مما يعيد غرونبيرغ النظر فيه، في مفهوم شميث السياسي، مقولته إن عالماً بدون تمييز بين الصديق والعدو هو، بالنتيجة، عالم بلا سياسة، فإنَّ المجتمع لكي يكون مجتمعاً حيوياً بحق، يحتاج إلى أعداء. ويرى، من ثم، أنَّ المواطن العالمي يمثل خطرًا، إذ كيف يمكن لدولة ما (أو كيان سياسي) البقاء على قيد الحياة إذا كانت غير راغبة في شن الحرب في أسوأ الحالات، أو لا تعرف من هم أعداؤها؟

 هل الغرب علماني أكثر من أن ينظر إلى الآخر على أنه عدو، في الوقت الذي يرى فيه "المتطرفون الدينيون" الغربَ عدواً؟ يدرك غرونبرغ أن بالمجتمعات بحاجة إلى أعداء للتعرف على نفسها، وأنها تنشأ من خلال التذكير المشترك أو الحرمان من العنف التاريخي. وعلى الرغم من ذلك، يجد أن ثنائية صديق/عدو - بحسب كارل شميت- هي تعريف سياسي. فالقوميون الغربيون أمثال دونالد ترامب يعتقدون أنهم يستطيعون تشجيع الأعداء واللعب معهم؛ لأن الحرب لن تصل إلى ولاياتهم ومدنهم المزدهرة على أي حال. لكن سقوطهم - يقول غرونبيرغ - هو جزء من هذا التناقض، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نستبعد أنهم سوف يجرفون الآخرين بزوالهم. وفي سياق ما يخلقه السياسيون من مآزق، ينبغي التساؤل دائماً عن ماهية الدولة والمجتمع، وكيف ندافع عنهما، وما هي النتيجة النهائية لهذا العداء؟. فهذه هي الحرب، كما يقول شميت، وهذا أمر طبيعي أيضًا. لذلك عليك أن تسأل نفسك عن منتهى حدودك، حتى لا تصل إلى هذا الحد. فالحفاظ على السلام الداخلي هو الدور الرئيس للدولة، حيث يمنعك من أن ترى في جيرانك عدوّاً، وأنت تحاول توجيه مدفعك الرشاش إليهم. وهذا هو على المحك اليوم؛ لأن بعض السياسيين الغربيين يخلقون أعداء داخليين، كالمسلمين، على سبيل المثال. الأمر الذي يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الكثير من الاضطرابات الاجتماعية في المجتمعات الغربية نفسها.

 إنما لعل لذلك علاقة بأحداث 11 سبتمبر 2001 التي قدمت صورة مختلفة، بالفعل، للعالم والإنسان، هي صورة الخوف والبحث عن الأعداء، أو تحويلهم إلى عدو، أولاً من قبل ابن لادن، ولاحقاً من قبل الآخرين. ولكن ما مدى صحة أن يكون أحدهم عدوّي تلقائياً بمجرد أن يخبرني أنني عدوه؟

 في الحقيقة، هناك سبب كبير للتفاؤل اليوم، لكننا لم نعد نرى ذلك بسبب خوفنا وانتشار صور العدو أو هيمنتها في الفضاء الإعلامي بوسائله المتعددة . ففكرة أننا نعيش الآن في أسوأ الأوقات هي ببساطة غير حقيقية، إذ يعتقد غرونبيرغ أن لهذا علاقة كبيرة بالهوية، و ببعض السياسيين الذين يلعبون لعبة خطيرة في الوسط الاجتماعي. ويضيف أنه "لم يعد بوسعنا أن نتصور أن ستنشب حرب، مرة أخرى، في أوروبا، ولذلك لم نعد ندرك المخاطر المحتملة. لهذا السبب نحب اللعب مع قاذف اللهب، في صورة ماثلة ومعبرة عن غياب كامل للمسؤولية". وفي إشارة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يقول: قد تتساءل عما إذا كان أولئك الذين يقولون إنهم يحبون بريطانيا لا يعملون على تدمير بلادهم، مشيراً إلى عبارة أوسكار وايلد، ومرجحاً أنه على حق عندما كتب أن "كل امرئ يقتل ما يحب".

 وإذ يرى كارل شميت أن الوظيفة الرئيسة للدولة هي منع نشوب حرب أهلية. فإن غرونبيرغ يتسق معه فيرى أن في قوله الكثير من الحقيقة، ففي اللحظة التي يبدأ فيها الناس بإنشاء مجموعات ضد بعضهم بعضاً، فهُم يقوضون وظيفة "الدولة". وإذا قيل إن لدى الدولة أعداء داخليين، كما في خطاب اليمين المتطرف، فإنّ هناك خبثاً في قول كهذا. وأن يتم تقديم رفض سلوك الآخر لاعتبارات مثالية، فذاك يكون مدمراً في النهاية. ولأن بكل دولة حاجةً إلى صورة العدو، والعنف، حيث لا يمكن تحقيق العدالة دون عنف، فإن صورة العدو ستظل ماثلة، وليس من سبيل منظور إلى استبعادها. لكن الاعتقاد بأن السياسة لا تدور إلا حول الفرق بين الصديق والعدو يعد شكلاً من أشكال العمى عن الفرق بين الدولة والحزب. لكن هناك ما ينبغي توكيده في هذا السياق - يقول غرونبيرغ - فقد أصبح مجتمعنا أكثر سلماً، بحيث تبدو مجزرة كبرى مثل الحرب العالمية الأولى مستحيلة بالنسبة إليّ اليوم، فلا أحد يرغب في إرسال جيل كامل إلى ساحة المعركة. لكن من ناحية أخرى، يجب على الدولة أن تحتكر العنف. فالعنف ضروري في بعض الأحيان، وإلا لماذا نكرم مقاتلي المقاومة؟ إنما السؤال المنطقي هو كم من العنف يمكن أن تستخدمه الدولة؟ فنحن نسلم باحتكارها العنفَ خوفاً من وحش الثورة؛ لأن ذلك سيضع نهاية للفوضى، لكن الدولة نفسها قد تصبح وحشاً. إذن، تُعاد صياغة السؤال على نحو مختلف: كم من العنف يمكن أن نقبله من الدولة؟

 لقد ألقت هولندا العنف في المحيط، ولم يعد بإمكان الهولنديين تخيل معنى أن يكونوا خارجين عن القانون الذي يحظى باحترامهم. ولئن كان هناك، في بلدان عديدة، من يرفع صوت "بلدنا أولاً"، فإن فيها من يحتاجون إلى مجتمع حقيقي، وفيها أيضاً من لديهم ميول قبائلية. لذا ينبغي أن يؤخذ ذلك على محمل الجد، دون دعم التطرف القومي اليميني. لكن السؤال هو كيف يمكنك التعامل مع ذلك، دون الوقوع مثلاً في الخطاب الفاشي القديم الذي ينص على أن "هولندا للهولنديين"؟

 إن من الجيدِ السعيَ إلى السلام العالمي ورؤية كل الناس كلهم كإخوة أو أخوات، ولكن هل نستطيع أن نكون فعلاً بلا عدو، ما دام الآخرون يجرّدون منا، في الوقت نفسه، عدواً؟ ألا ينبغي لنا في الأقل أن نختار أعداءنا، لنكون في أقصى الحالات، مستعدين لمحاربتهم؟ وهل نحتاج إلى عدو مشترك لنكون قادرين على تشكيل مجتمع متماسك؟ الأمر الذي يستدعي مفهوم "صناعة العدو" وشيطنته أيضاً، وفق مقولة تشرشل "في السياسة، لا يوجد صديق دائم، ولا عدو دائم، ولكن توجد مصالح"، ونماذج ذلك في السياسة الدولية ماثلة، كتكريس مفهوم المصلحة بديلاً عن مفهوم الأيديولوجيا الذي كان سائداً طوال مرحلة الحرب الباردة حتى 1989.

 لا يخفي الكاتب خشيته من كون العداء ما زال حتمياً في الوقت الحاضر، فكل مجتمع يحتاج إلى أعداء خارجيين ليكون مجتمعاً يعرف من هو، وماذا يريد؟ لكن هذا لا يعني أن العداوة "حاجة طبيعية" فهي - كما يقول - حاجة ثقافية، فضلاً عن أنها نتيجة للمنافسة أيضاً، وبالرغم من أن كل منافسة ليس بالضرورة أن تنتهي بالعداء المرير، إلا أن لكل منافسة، في واقع الأمر، سمات عدائية. فهكذا مثلاً ينافس الإخوة والأخوات بعضهم بعضاً في حب آبائهم، وحيث يكون الحب، وحيث تكون المنافسة، غالباً ما يكون هناك عداء مهما تختلف خلفياته وتمظهراته.

 وبقدرما يقارب غرونبيرغ في كتابه هذا سؤالاً مهماً في أدبيات الفكر السياسي المعاصر- يعيد نفسه بقوة في إطار الاستقطابات الحالية - فإنه يقدم إجابة موازية تتضمن تجارب فكرية مثيرة للاهتمام، وتستثير أسئلة سياسية جديرة، اليوم، ببحث أكثر شمولاً في القضايا الراهنة التي يمور فيها العالم بتحولات، و تناقضات، واهتزازات تمس كثيراً من اليقينيات السياسية والمسلّمات والأفكار المتواضع عليها، وترشّح ما قد يضع تحديات جدية أمام ما قد تم إنجازه على مستوى التحول الإنساني في الدساتير والقوانين ونُظم العقد الاجتماعي في فضاء الديمقراطيات والحريات العامة، حيث يبدو "اللاهوت السياسي" محاولة لاكتساب نظرة ثاقبة إلى طبيعة الحداثة، ويصبح المجتمع والأحزاب والدولة، في الديمقراطية التمثيلية، مرتبطين بشكل لا ينفصم. وتتجلى السلطة مخففة في سياسة استشارية ليبرالية ناعمة، يغدو معها العنف والعداء جزءاً من ذكريات أزمنة الحرب، في حالة من حالات التطور التي يصفها غرونبيرغ بقوله: "لقد أنتجت ثقافتنا (الجزارَ النباتيَّ)، وستنتج في نهاية المطاف الحرب اللاعنفية". الأمر الذي يضع المجتمعات المعاصرة إزاء اختبار حقيقي: أ تصمد تلك القيم الإنسانية المكتسبة أم يمسها شيء مما يخطط له المناوئون، بدعاوى مختلفة تشتغل على تناقضات اللحظة، وجدلية الثنائيات الضدية، وجاذبية الهويات التي تستوجب قراءات معمقة أوإعادة قراءة أحياناً، بقصد تفكيكها مفهومياً، واستجلاء محددات التكتيكي والاستراتيجي في كل مرحلة من مراحل تطور الفكر السياسي في العالم المعاصر.


-----------------------------------

الكتاب: الصديق والعدو
المؤلف: أرنون غرونبيرغ
الناشر : برومثيوس
سنة النشر: 2019
اللغة: الهولندية
الصفحات: 112

 

                                                            

أخبار ذات صلة