إيزابيل سورون
سعيد بوكرامي
منذ بداية القرن الثامن عشر، أصبحت إفريقيا محط اهتمام المجتمعات الأوروبية المتعلمة والدوائر العلمية التي وضعت على عاتقها مهمة إماطة اللثام عن أسرار هذه القارة القريبة جدا، لكنها رغم ذلك ما زالت مجهولة. ولكشف النقاب عن إفريقيا كان ينبغي إرسال البعثات لسبر مجاهلها، والإشراف عن بعد على المجموعات العلمية لجمع المعلومات الجغرافية وملء الفراغات على مستوى الخرائط الجغرافية. كان غرب إفريقيا أول منطقة اجتازها المستكشفون الأوروبيون مزودين بتعليمات علمية، لكن بعد قرن تقريبًا من البعثات الاستكشافية سرعان ما تحولت إلى حملات غزو واستعمار. في "إفريقيا الداخلية"، كان المسافرون يعتمدون بالكامل على الزعماء الأفارقة الذين يملكون القدرة على فتح أو إغلاق الطرق وتوفير المرشدين والمترجمين الذين يسهلون الرحلات. كما اعتمدوا على التجار المحليين الذين كانوا يوفرون المأوى والدخن. وللتنقل في هذه المساحات الشاسعة، كان المستكشف يشارك في تجربة جديدة بالكامل، جسدية ونفسية واجتماعية وثقافية، حيث تبنى المعرفة من خلال الممارسات اليومية والتفاعلات الملموسة مع الفضاءات المأهولة والشاغرة. وبذلك يصبح الاستكشاف احتكاكا مع مجموع الأماكن التي تتكشف فيها هذه الممارسات من قبيل التواجد في مكتب الجغرافي، وقاعة الاجتماعات لشركة متخصصة في الجغرافيا، وتحديد الأفق الذي يوجه نظرة الرحالة، والطريق المخطط له مسبقا، والمسار الذي سيعبره فعليا، والمرور عبر ضفاف الأنهار، والإقامة في منزل أحد الأعيان الذين يستقبلون الرحالة، والتشاور داخل الخيمة مع المرشد، وجمع العينات، والكتابة اليومية في دفتر الملاحظات، ورسم الخريطة على الرمال أو على الورق .كل هذه الخبرات والتجارب تمكن المستكشف في رحلاته من التعرف على الإنسان و الأمكنة والأشياء واحتمالات النجاح أو الفشل.
تناولت الباحثة والمؤرخة إيزابيل سورون أكثر من ثلاث وأربعين رحلة، قام بها رحالة فرنسيون وبريطانيون وألمان بين 1780 و 1880 في غرب أفريقيا، وهي منطقة من القارة تضم في معظمها بلدانا مطلة على خليج بنين (موريتانيا والسنغال والسودان الفرنسي (مالي حالياً)، وغينيا الفرنسية، وساحل العاج، وفولتا العليا (بوركينا فاسو حالياً)، وداهومي (بنين حاليا) والنيجر). في مقدمة الكتاب، تضع الكاتبة موضوع المستكشفين ضمن علم التأريخ الحديث وتقدم خياراتها البحثية انطلاقا من النظر في التفاعلات بين المستكشفين والسكان الأصليين لأن التاريخ يشكل أفقًا، وهدفًا، يضع الجهات الفاعلة الواقعة على جانبي هذا التفاعل على قدم المساواة إنسانيا واجتماعيا.
تنقسم فصول الكتاب إلى ثلاث مراحل: مرحلة الاستكشاف لمنطقة غرب إفريقيا، كمشروع علمي سينتهي به المطاف إلى مشروع استعماري ثم تنتقل إلى مرحلة الممارسات والاستراتيجيات التي دونها المستكشفون وأخيرا تختم بطريقة استقبالهم في بلدانهم الأوروبية وما شابها من نقاشات ومجادلات علمية وسياسية.
وانطلاقا من ذلك تعكف المؤرخة طويلاً على تجارب أولئك الذين قادوا هذه الحملات. مولية أهمية قصوى للجانب التحليلي لهذه التجارب الميدانية. فهي تدرك أن معظم الرحلات تتشكل من مجموعة واسعة من الممارسات، التي تحدث داخل العديد من الفضاءات، بحيث تبدأ الاستكشافات في الواقع من مكتب العلماء الذين يحددون المناطق المفترض استكشافها، فيعينونها داخل الخرائط من خلال تبادل المعارف بين أعضاء شركات الجغرافيا المختلفة التي تقدر قيمة الاكتشافات التي ستتم بعين المكان.
إنّ غنى عمل إيزابيل سورون يسمح لنا بالحديث عن الاستكشافات من جانب "الواقع الاجتماعي" لأن الكثير من الموضوعات المختلفة ذات الصلة والمجهولة تتناولها الباحثة. كما أنّ تحليل هذه البعثات يتقاطع مباشرة مع التاريخ المادي للمعرفة. ومن أجل التنقل، وجمع أو نسخ البيانات والمعطيات، كان المستكشفون يعبأون في الواقع العديد من الوسائل المرتبطة بالتقنيات العلمية. إن تاريخ هذه الاستكشافات غيّر أيضًا الطابع المؤسسي للعلوم. لهذا السبب جرت العديد من الرحلات برعاية الجمعيات العلمية. مثل توصيات الجمعية الأفريقية، التي تأسست في انكلترا في 1738، والتعليمات الموجهة للمستكشفين عن طريق الجمعيات الجغرافية في باريس (التي تأسست في عام 1821)، وبرلين (أنشئت في عام 1828) ولندن (تأسست في 1830) التي ضمنت نوعا من المعايير الموحدة أثناء الرحلات. كما أن مأسسة التنقيب أصبحت تسير جنبا إلى جنب مع المراسلات الشخصية بين الشركاء الرأسماليين والمغامرين على حد سواء. والهدف منها الحسم في المواقع المستكشفة من حيث الفائدة المادية من عدمها. كانت هذه الحملات الاستطلاعية تثير الكثير من الخلافات الدولية خصوصا بين الدول ذات الحضور القوي على الساحة الدبلوماسية.
تتناول دراسة إيزابيل سورون أيضا بعض الجوانب الجمالية الكامنة في العديد من مدونات المستكشفين التي أغنت خيال مؤلفي روايات المغامرات الذين استعاروا منها معطيات مهمة. ومع ذلك يهيمن موضوع واحد تقريبا داخل مظان الكتاب ونجده في كل مرحلة من مراحل تفكير الكاتبة في تاريخ الاستكشافات، يتعلق الأمر بحديثها المستمر عن نظرية المعرفة وتقصد المنطق الفكري الذي مكن من إنجاز الخرائط والطريقة التي نظروا بها في عين المكان إلى الفضاء الإفريقي، وما واكب هذه المعرفة المستكشفة من نقاشات وخلافات شديدة حول تقييم المعرفة المتراكمة من قبل المستكشفين الذين حددوا تعريفا معينا للجغرافيا وممارسة هذا العلم. في كتابها، تقدم إيزابيل سورون أيضا أطروحة قوية مفادها أنه لا يجب اعتبار استكشاف غرب إفريقيا بين أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر الفعل الافتتاحي لاستعمار الشعوب الإفريقية من قبل الأوروبيين. فالبعثات التي اهتمت بها المؤلفة تكشف، على النقيض من ذلك، لأنها "تشكل تجربة من اللقاء الإنساني، تشكلت أساسًا من خلال التفاعل الثقافي الذي يتحكم فيه الفضول العلمي والرغبة في التعرف على الآخر" (ص .19) بين المستكشفين والسكان المحليين.
تقول إيزابيل سورون، إن البقعة البيضاء على الخريطة التي تمثل غرب إفريقيا، هي التي أيقظت نوعًا من الحراك الاستكشافي نحو هذا الجزء من القارة. وكأن هذا الفراغ الخرائطي أوحى بأن الفضاء الممثل هكذا كان خاليا من العقبات جميعها، ومنفتحا على إمكانية القيام بالرحلات كلها. في حين، تواصل المؤلفة، من الممكن أن يكون ذلك مجرد "اصطناع لبياض في الخريطة" (ص. 46) خصوصا وأن في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانت ماتزال الخرائط غير دقيقة وكان لابد " من إعادة تحديد الجهات المعروفة وغير المعروفة" (ص 52). لفترة طويلة، كانت تحتوي خرائط القارة الأفريقية على بيانات تنتمي إلى سجلات مختلفة ومتضاربة من المعرفة الجغرافية. فلم تكن المعلومات الجغرافية عن مسار السواحل دقيقة أو الإشارة لأسماء الأماكن محددة بدقة وصرامة. على سبيل المثال، أظهر تمثيل الحيوانات البرية نوعًا من الجودة أكثر من المعرفة الطوبوغرافية. مع إنشاء الجغرافيا الإيجابية، التي تمثلها خرائط الجغرافي جان باتيست دانفيل (1697-1782)، "لم تعد مسألة تمثيل مكان ما بحسب ما يعرفه المرء عنه ولكن من خلال موقعه الجغرافي، وبالتالي، يختفي كل ما لا يمكن تحديده بدقة "(ص 48). إن تطور الجغرافيا النباتية، بالتوازي مع الجغرافيا في مطلع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هو بطريقة ما الانعكاس التجريبي لهذه التطورات الخرائطية. وهو أيضا، الشاهد على ظهور "شبكة جديدة من القراءة لسطح الأرض (ص 233) لم يعد المستكشفون ينظرون إلى النباتات باعتبارها عناصر من مجموعات نباتية شاسعة يتم تشكيلها، ولكن كعلامات تسمح بوضع الحدود الجغرافية بدقة للمساحات المختلفة. تكشف أيضًا المناقشات العلمية المتعاقبة حول عودة المستكشفين عن إجماعهم على عدة مبادئ ناشئة عن "مرجع مشترك يرسم معالم العلم الطبيعي" (ص 288). وعلاوة على ذلك، أضاءت الخلافات الكثير من الجوانب الملتبسة كما حدث مع ملاحظات الرحالة رينيه كايلي، الذي يعتبر أول أوروبي يعود حيًّا في عام 1828 من تمبوكتو في مالي، ودليل على ذلك أن المغامر الفرنسي واجه عدة تحقيقات اعتمدت على سجل أخلاقي لا تأخذ في الحسبان الاعتبارات الاجتماعية، أكثر مما تستند إلى مبادئ المنطق العلمي. وقد قلل تحليلهم لتلك المرحلة من المصداقية الممنوحة للخبرة الميدانية مقارنة بالمنجزات العلمية داخل المكاتب الدراسية.
إن "رسم الخرائط" للمعرفة هو التسلسل النهائي الذي يغلق بطريقة ما الدائرة التحليلية التي رسمتها المؤلفة في دراستها (من الأبيض في الخريطة... إلى لحظة ملئها). تمثل هذه العملية تثبيت المعايير المشروعة للتعريف وممارسات الجغرافيين. من خلال السعي، على سبيل المثال، لتمثيل مسافات الأمكنة المقدرة على الأرض ليوم من السير، ويقوم الجغرافيون بنقل العديد من المعطيات. إذا كانت شهادة السكان الأصليين، التي جمعها المستكشف بعناية، مفيدة للعلماء الأوروبيين، فإن استخدام خرائطهم الخاصة أمر غير وارد. ليس لأنها مليئة بالمعطيات الخاطئة، بل لأنهم يمثلون معرفة متراكمة، ومصطنعة ومستغلة وفق طرق تفكير أخرى.
إذا كانت الدراسة قد دفعت المؤلفة إلى مضاعفة الملاحظات حول طرق التفكير وممارسة الجغرافيا بين عامي 1780 و1880، فإنها سمحت لها أيضًا بتطوير فكرة مهمة تقول إن الاستكشافات في غرب إفريقيا في هذه الفترة ليست مرادفا للهيمنة الكولونيالية، ولا تمثل بدايات استعمار هذا الفضاء. لذلك تأسف الكاتبة للربط بين الاستكشاف والاستعمار الذي عمل على جعل القرب الزمني والتمكن من الكشف عن الأسرار الجغرافية لهذه المنطقة الإفريقية إلى عامل سببي أدى إلى الحملات الكولونيالية. من التحليل الدقيق لمدونات المغامرين، يبدو أن رحلاتهم كانت تتخللها لقاءات ومحاورات لا يتمتعون فيها بميزة التفوق. ويرجع السبب إلى حاجز اللغة، والتبعية اللوجستيكية، والتقدم في مناطق متشابكة بوجود العديد من المؤسسات السياسية "تضع الرحّالة في حالة من التفاعل مع الأفراد أو الجماعات من خلال إجباره على التفكير في أساليب المعاملة بالمثل داخل هذه العلاقة "(218). ومن بين تلك اللحظات: لحظة تبادل الهدايا بين المستكشفين والنخب المحلية. كانت قيمة الهدايا مفهرسة بطريقة ما حسب التقدير المتبادل لهيبة الآخر وقيمته داخل القبيلة، وتحدد قيمتها من طرف فاعلين استراتيجيين.
خلال المناسبات العديدة التي اجتمع فيها الأوروبيون والأفارقة، يظهر أن الجسد لعب دورا رمزيا حاسما، لأنه بطريقة ما أول وسيلة يستعملها المستكشف، مادام التقدم المادي داخل الفضاء هو الشرط الأساسي لمراكمة المعرفة الجغرافية. ولكنه أيضًا أحد أهم عناصر التفاعل: ألا يعني اللون المختلف لبشرتهم أن المستكشفين يؤمنون بآلهة أخرى؟ هل عليهم بعد ذلك إخفاء إيمانهم؟ لتسهيل تقدمهم؟ هل يجب عليهم ارتداء الملابس التقليدية المحلية؟ إلى أي مدى تغير الاختلافات الثقافية العلاقات بين جنسين مختلفين (أسود/أبيض)، تكون سيماؤهما عبارة عن صور وتجليات ذات دلالة متناقضة في أغلب الأحيان؟
بهذا الكتاب المميز، تعمل إيزابيل سورين على إبطال الرمزية عن الاستكشافات؛ إذ تخلص الكاتبة إلى أن المستكشف هو في الواقع ليس بطلاً بروميثيانياً استحوذ على إفريقيا بشكل رائع، ولا هو الضابط المغوار حامل الرسائل الذي يعلن بوصوله إلى القارة الإفريقية ولادة الإمبراطوريات.
لم يكن تناول إيزابيل سورون الأستاذة الجامعية في مادة التاريخ المعاصر في جامعة ليل، لهذا الموضوع اعتباطيا بل جاء استكمالا لبحوثها السابقة، فهي متخصصة في التاريخ المقارن للاستعمار وتاريخ إفريقيا وتاريخ المعرفة. ركزت في أطروحتها، التي دافعت عنها في عام 2003، على: جغرافية الاستكشافات: الخرائط، والتضاريس ونصوص الرحلة: غرب أفريقيا، 1780-1880 تحت إشراف دانيال نوردمان. كما تناولت الممارسات الجغرافية في غرب أفريقيا وشمال شبه جزيرة الهند الصينية في القرن التاسع عشر.
--------------------------------------
عنوان الكتاب: إماطة اللثام عن إفريقيا، أمكنة وممارسات الاستكشافات في غرب إفريقيا (1780 – 1880)
المؤلفة: إيزابيل سورون
الناشر: منشورات جامعة السوربون. باريس 1 فرنسا
سنة النشر: 2018
الصفحات: 382 ص
اللغة الفرنسية
