نيكولاي شاخماغونوف
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
عندما يناقش الباحثون والنقاد أعمال الكاتب الروسي الكبير ليف تولستوي، وحين يراجعون تركته الأدبية الضخمة ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر رواية "الحرب والسلام" و "آنا كارينينا" و "القيامة"، فإنهم لا يكتفون بالمدخل الأدبي وإنما تتعدد مداخلهم إلى عالمه الواسع وذلك بتعدد المشارب التي استقى منها هذا الكاتب وبتنوع الأسس التي يقوم عليها أدبه. فمن بين الباحثين في حقل تولستوي، ثمة الفلاسفة والمؤرخون وعلماء النفس والخبراء في النفسانية العائلية. ولو أردنا أن نستقرئ المناخ الذي كان تولستوي يعمل بموجبه، سنجده، وبينما هو يتهيأ لكتابة عمل ما، يدرس المواد التاريخية الأرشيفية بعناية فائقة، ولا تهدأ جوارحه قبل أن يصل إلى جوهر المسألة بوجهيها: النفسي والفلسفي، وذلك قبل أن يشرع بتحويلها إلى عمل فني. وقد تصادف تاريخيا أنّ الأدب الروسي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، كما كان يلاحظ العديد من الباحثين، حل محل الفلسفة. فلم تسلك الفلسفة الروسية في تلك الفترة طريقا إلى المراقي الفلسفية الصافية مثلما سلكتها الفلسفة الألمانية، ولكنّها انتشرت وتعممت من خلال الروائع الأدبية في ذلك القرن الذهبي للثقافة الروسيّة، حيث ظهرت لنا نماذج من هذا الشكل المجازي في مؤلفات تولستوي ودستوفيسكي وغوغول وغيرهم من الكتاب الروس.
يكرس الكاتب الروسي نيكولاي شاخماغونوف، المعروف بمؤلفاته للسير الفنية والتاريخية، يكرس تولستوي في كتابه الجديد ليس باعتباره أديبًا كبيرًا، وإنّما بصفته أخصائيًا بارعًا في علم النفس العائلي وباحثا متجذرًا في القومية الروسيّة ومؤرخًا فقيها لفترة الحروب النابوليونية، فقام بدراسة الأعمال الفنية لتولستوي وراجع يومياته التي بدأ كتبها وهو في عمر التاسعة عشر، واستمر فيها حتى وفاته عام 1910، كما تضمّن الكتاب أقوالا لمعاصري تولستوي، فصاغ من كل هذا الشتيت رؤية متماسكة حول القيمة الإبداعية النفسية والفلسفية لهذا الكاتب العبقري.
ويركّز الكتاب في المقام الأول على موقف ليف تولستوي المتناقض عن المؤسسسة الزوجية والسعادة العائلية. ويدخل شاخماغونوف إلى هذا المضمار بطريقة قلما تطرق إليها الباحثون في سير الكتاب العظماء، حيث جرت العادة أن يستبعد الباحث، وبدعوى عدم تشويه صورة الكاتب المبدع أمام الرأي العام، يستبعد الحياة السرية والعاطفية للمبدعين، ويخفي تفاصيل من حياتهم الزوجية؛ بينما يؤكد نيكولاي شاخماغونوف على أهميّة الولوج إلى هذه التفاصيل وذلك من أجل الخروج باستنتاج علمي يضيء لنا شخصية المبدع ويوسّع مداركنا لاستيعاب فنّه وأدبه بشكل أشمل. ومن ناحية أخرى، وكما يشير إلى ذلك شاخماغونوف ويجدها مسألة بديهية، أن الكاتب الذي لم يشهد منعطفات حادة في حياته العاطفية لن يكون بوسعه الكتابة عن الحب والغيرة والعشق والهجر. فليس من قبيل الصدفة أنّ واحدا من أهم مبادئ الخلق الأدبي هو انسحاب صفات الكاتب على شخصيّات عمله.
ويقف مؤلف الكتاب على عدة مقولات عرفت لتولستوي تعبر عن موقفه تجاه المرأة، وهو موقف محيّر إذا ما قورن بموقع المرأة في أدبه. ومن بين تلك المقولات: "فكر في مصاحبة المرأة باعتبارها مصدر إزعاج لا بد منه في الحياة العامة، وحاول أن تبتعد عنها قدر المستطاع". وفي قول آخر: "لا يكفي أن نمنع المرأة من قيادة شؤون الحياة ولكن، وفضلا عن ذلك، يجب أن نراقبها لكي لا تدمرها". فما هي الأسباب التي جعلت من كاتب ومفكر بوزن تولستوي يطلق مثل هذه الأحكام عن المرأة، أي الوجه الجميل للبشرية؟ ما هي الأحداث التي مرّ بها هذا الكاتب العبقري وأدت إلى هذه الاستنتاجات ذات النبرة المتطرفة؟ يحاول الباحث العثور على الإجابة لهذه التساؤلات والعديد غيرها فيما يتعلق بالحياة والحب في نظر تولستوي ورؤيته الأخلاقية.
وكما يثبت شاخماغونوف في كتابه فإنّ ثيمة الزواج ثيمة أساسية في تأملات ليف تولستوي وركن أصيل ومحوري في معظم أعماله. كما أنه ينطلق من الأفكار المتعلقة بالسعادة الأسرية وبالتلاحم الزوجي المثالي لصياغة أعماله الفنية ونسج حبكته الفلسفية التحليلية. وقد ذهب تولستوي عميقا في بحثه عن الأسباب التي تجعل بعض الزيجات سعيده وغيرها شقية. فنرى أن مدخله إلى كبرى أعماله الروائية أي رواية "آنا كارينينا" هو هذه العبارة: "جميع العائلات السعيدة متشابهة، وكل أسرة غير سعيدة إنما هي غير سعيدة بطريقتها الخاصة" ومن الملاحظ أن تولستوي أولى أهمية خاصة لموضوعة الزواج في سنواته الإبداعية الأخيرة، ويمكن اختصار أفكاره تلك في هذا المقطع: "يأتي الزواج من ناحية الأهمية النفسية في مرتبة تالية للموت، والاثنان لا رجعة فيهما. والزواج، مثله مثل الموت، يصبح مجديا فقط حينما لا يكون ثمة مفر منه. وإن كل موت متعمد شر، كذلك هو الزواج لا يصبح خيرا إن تم من دون حاجة ملحة وحقيقية إليه، أي حينما تُسد جميع الطرق ولا يتبقى سوى الطريق المؤدي إليه".
ويشير الباحث إلى حقيقة أن ليف تولستوي كان ناقدا لاذعا لنفسية مجتمع النبلاء العلماني الذي ولد وعاش فيه، وصاغ رأيه عن الفرد في هذه الفئة الاجتماعية بقوله إنه كلما علا شأنه في الرأي العام بخست قيمته في نظر نفسه. أما عن الفكرة التي تبناها المجتمع للزواج، وبأنها الضامن الوحيد لحياة أسرية سعيدة، فإن لتولستوي رأيا مخالفا يلخصه الباحث على النحو التالي: "إن السبب الرئيسي في المشاكل التي تعاني منها الأسر هو أن الناس نشأت على فكرة أن الزواج يمنح السعادة، وبأنه الموئل الضامن لحياة جنسية واعدة، كل ذلك يتم دعمه وتزكيته من قبل المقولات الاجتماعية الجاهزة وعبر الأدب الذي نقرؤه، ولكن الحقيقة أن الزواج ليس كله سعادة بالمطلق، فثمة المعاناة والعبودية والشبع والاشمئزاز وجميع أنواع العيوب الروحية والجسدية، وهناك الخداع والكسل والبخل والطمع وكل الرذائل التي يصعب على المرء تحملها في نفسه، فكيف وهي تأتي من شخص آخر؟ إننا نقرأ الروايات ونختمها بزواج البطل والبطلة، ونحن بذلك نقطع الحكاية، فالزواج هو بداية الأشياء وليس خواتيمها؛ هذا أمر شديد الشبه بوصفنا لرحلة شخص ثم نقوم بإنهاء الوصف في اللحظة التي يقع فيها المسافر بيد قطاع الطرق"(ص: 276 – 278).
ومن الأسئلة التي يطرحها الكاتب في مؤلفه، مستعينا في كل مرة بحياة الكاتب ليف تولستوي كمثال لتحليله وكطريق ماهد لأطروحته، ثمة عملية التقاطع بين الكاتب وعمله الإبداعي، وبين الحياة اليومية المضجرة التي يعيشها. يقول في هذا الصدد: "من المهم لدى الكتّاب المحنكين أن يكون هناك فاصل نفسي وتقني بين الحياة التي يعيشونها والكتابة التي يعملون عليها؛ فنجد أن معظم الكتاب، وما أن يدخلوا إلى عالم الكتابة والإبداع حتى ينقطعون عن العالم الواقعي الذي يعيشونه، حتى وإن كان ثمة انعكاس بين العالمين، إلا أنّ لعالم الكتابة لحمة متفردة وصياغة فنية لها منطقها الخاص. أمّا الأمر لدى تولستوي فمختلف، حيث لم نعد نعرف معه أين يبدأ عالمه الواقعي وأين ينتهي عالمه الإبداعي، كما نجد أنّ أسرته تمثل واقعا محايثا ومتداخلا مع كتاباته الروائية، وبالتالي فنحن حينما ندرس أعمال تولستوي ونؤرخ لها نقوم كذلك بتأريخ الحياة العائلية لهذا الكاتب".
ومن الأصداء الخارجية التي تلقاها الكاتب الروسي ليف تولستوي وأثرت عميقا في جانب مهم من إبداعه، يذكر الباحث ما يُعرف في روسيا بالظاهرة القوقازية في الأدب الروسي؛ وقد خدم تولستوي في العسكرية في جبال القوقاز وكتب عن تلك الأنحاء فيما بعد. ومع أنّ خضم الحروب المتواصلة في هذه المنطقة الجنوبية لروسيا يأتي من منطلقات سياسية واستراتيجية، إلا أنّ حضورها امتد إلى مستويات ثقافية وفكرية وأدبية، فهذه المنطقة التي لطالما شربت الكثير من الدم الروسي ودماء الشعوب القوقازية، استحكمت بأمزجة العديد من مشاهير الأدب الروسي وفي مقدمتهم شاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين، والشاعر الكبير الآخر ميخائيل ليرمنتوف الذي سُفح دمه في أحد منحدارات جبل ماشوك القوقازي الرائع. ومن هذا المنطلق يعبر الباحث عن الحضور الكثيف لمتعرجات التاريخ السياسي الروسي في أعمال الكتاب الروس، وما رواية تولستوي "الحرب والسلام" سوى ذروة إبداعية اجتمع التاريخ والأدب والسياسة في عمل فني بديع وخالد.
إلى جانب دراسته لتولستوي باعتباره خبيرًا في العلم النفساني الأسري، يطالعنا الباحث على جانب فكري آخر طالما تمتع به عبقري الرواية الروسية، ألا وهو الفكر السياسي، فيقدم شاخماغونوف براهينه التي تؤكد على رؤيوية وتنبؤية تولستوي السياسية والتي يصفها بالمذهلة. وفي هذا السياق يشير الباحث إلى أن تولستوي، وعبر اهتمامه المباشر بالسياسة الداخلية الروسية، وزياراته التي كان يقوم بها إلى المناطق الساخنة في بلاده، راكم خبرة عظيمة ساعدته على وضع السيناريوهات المتوقعة لمستقبل البلاد. يقول المؤلف: "لقد كان تولستوي مقتنعا بأنّ التصوّر الوطني الحقيقي لروسيا يتمحور في فكرة التنظيم الاجتماعي منزوعا من الملكية الفردية للأرض. فالشعب الروسي يُنكر مُلكية الأرض، والثورة الروسية القادمة لن تكون ضد القيصر وإنّما ضد تملك الأرض" (ص: 307). وهذا بالفعل ما جاءت به الثورة البلشفية بعد وفاة تولستوي بربع قرن ونيف. كما جادل تولستوي في موضوع الحكم الأصلح لروسيا، حيث يعتقد جازما أن تسعين في المئة من الشعب الروسي يؤيدون الحكم الملكي ويعارضون الحكم الدستوري، فهم مقتنعون بأنّ القيصر الذي ألغى قانون القنانة (والمقصود هنا القيصر الكسندر الثاني) بيده أن يمنح الأرض للمزارعين والفلاحين، في حين لا توجد أية ضمانة ألا يستولي رجالات الحكم الدستوري الديموقراطي على الأرض ومن عليها.
ويستعرض الكاتب أقنوما آخر لتولستوي وهو تولستوي المؤرخ، فقد اعتمد تولستوي في روايته المركزية الحرب والسلام على إرشيف ضخم من الوثائق حول حملة نابليون لموسكو عام 1812، وأثث من خلالها أجواء روايته ورسم شخصياتها. وقد كانت خطة تولستوي لكتابة روايته أن يضع الثوريين النبلاء الذين كانوا يطمحون في إقامة نظام جمهوري من خلال انقلابهم الفاشل في عام 1825، أن يضعهم في موقع متقدم في روايته العظيمة، ولكنّه، وبعد تمعنه في الأحداث التاريخية التي انبنت عليها رواية الحرب والسلام، استخلص أنّهم لا يستحقون ذلك الموقع البتة، فاستبدل خطته الكتابية برمتها. وثمة سؤال آخر حيّر تولستوي ووضع أمامه عقبة في عمله الروائي الكبير هذا، ألا وهو شخصية نابليون نفسه، وأي صفات حقة تتصف بها هذه الشخصية التاريخية، إذ خلص في نهاية المطاف أنّه رجل رث وجشع ومريض يبتهج بمشاهد الدم والموت.
في الختام نخلص من هذا الكتاب أنّ الشخصيات البارزة، سواء كانت شخصيات أدبية أو سياسة، عادة ما تكون على مستوى عالٍ من الثقافة في مجالات متعددة. وفيما يتعلق بالكاتب الروسي الكبير ليف تولستوي الذي عُرف كأديب وروائي نجد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والثقافية والأعمال التاريخية التي وضعها لا تقل إثارة وأهمية من أعماله الأدبية قاطبة.
الكتاب: ليف تولستوي في الحياة والإبداع.
المؤلف: نيكولاي شاخماغونوف
الناشر: فيتشي/ موسكو 2019
اللغة: الروسية
عدد الصفحات: 352
*مستعربة وأكاديمية روسية
