إيثان شاغان
محمد الشيخ
من اكتشافات المحدثين، التي ظلت خفية على الكثير من الأقدمين، أن لكل شيء، كيفما كان شأنه، تاريخًا. ثمة من المفكرين من أرَّخ للحقيقة، وثمة منهم من أرخ للكذب، ومنهم من أرخ للضحك؛ بل منهم حتى من أرخ للجنون... واليوم، يلتحق بهم مؤرخ أمريكي إذ عني بالتأريخ "للاعتقاد"، لا سيما في دلالته الدينية: الاعتقاد الديني أو الإيمان. ففي أحدث إصداراته ـ "مولد الاعتقاد الحديث" (2018) ـ يستقصي المؤلف تاريخ الاعتقاد في الغرب المسيحي من العصور الوسطى إلى عصر التنوير، كاشفاً للمرة الأولى كيف نشأت مقولة متميزة للاعتقاد الحديث. ولم يركز المؤرخ على ما الذي يعتقده النَّاس أو ما الذي يؤمنون به ـ وهو الأمر الذي عني به عصر الإصلاح الديني ـ وإنما ركز على مسألة ما الذي يعتبره الناس "اعتقادا". وكانت بغيته من الكتاب بيان كيف حدث إن غدا الاعتقاد يحتل هذا الموقع التناقضي في العالم الحديث: صار المقولة الأساسية التي بواسطتها نعبر عن أحكامنا عن العلم والمجتمع والمقدس، ولكن ذلك تمَّ على حساب الاحتكار الذي كان الدين، طيلة عصور ما قبل الحداثة، يحتكر به هذا المفهوم. فلم يعد الاعتقاد حكرا على الدين وحده، بل تعمم مفهوم "الاعتقاد" تعممه المعروف اليوم.
إشكال الكتاب
ذات يوم أجرى الأديب الروسي الكبير ليون تولستوي مقارنة غريبة بين المؤرخين وفاقدي السمع، فوجد أن كليهما يجيب عن أسئلة لم يطرحها أحد. ولا يخفي مؤلف هذا الكتاب أنه شعر بالحرج نفسه لما عزم على تأليف كتابه. إذ عادة ما كان النَّاس يسألونه عن الاعتقادات الدينية، لكن لا أحد منهم سأله ذات يوم عن تاريخ الاعتقاد نفسه. ثم إنَّ زملاءه نظروا إليه نظرة استغراب لما حدثهم عن مشروعه. وبتواضع شديد، يؤكد المؤلف على أنه رام وضع تاريخ للاعتقاد الديني. وقد ركز، على وجه الخصوص، على العصور الحديثة المُبكرة. لكن، لماذا يا ترى التركيز على العصور الحديثة المُبكرة؟ لقد فعل ذلك تأثرا بأستاذه تيد راب الذي كان يعتبر أن الحداثة المبكرة هي المرحلة الأكثر إثارة في التاريخ الأوربي، وذلك لأنها شكلت المنعطف الإبستيمي [المعرفي] من الماضي إلى الحاضر. لقد شكلت، بحسب تعبير المؤلف، "تحولاً في العصر" كان حاسماً.
دعوى الكتاب
يستفتح المؤلف كتابه بالتصريح التالي: نعم، إن للاعتقاد تاريخا. ويشرح معنى ذلك بالقول: ذلك أن مفهوم "الاعتقاد" مفهوم يتغير عبر الزمان. ويعترف المؤلف بأن عدد المؤرخين الذين درسوا مضمون الاعتقاد الديني لا يحصى، لكن المفهوم نفسه ـ ما الذي يعني أن نعتقد وأن نؤمن ـ بقي دوماً على الهامش، حتى وإن تأمل فيه الفلاسفة ورجال اللاهوت. وذاك هو ما يسميه "مقاومة المفهوم للدراسة التاريخية". ويعتبر أن هذه المقاومة ما كانت حدثا عرضيا. ذلك أن المؤرخين رسموا للاعتقاد مفهومًا ثابتا، فكان أن جعلوه بلا تاريخ. هذا بينما أطروحة المؤلف الجوهرية أن للاعتقاد تاريخا، وأنه مفهوم قد تغير. إذ بين العصور الوسطى وعصر التنوير، أعادت الثورات المتتالية في المعرفة الدينية تشكيل ما الذي يعنيه الاعتقاد/الإيمان، عاملة بذلك على تطليق اليقينيات القديمة، ومنتجة لفضاء الاعتقاد الحديث.
والحال أن المؤلف يرى أنَّ التحول الذي شهد عليه الاعتقاد، أكثر من بزوغ اللا-اعتقاد/ اللا-إيمان، هو الذي دفع بالفكر الغربي إلى تحقيق الحداثة، وأن التشكيلة التي ترتبت عن هذه الدفعة هي التي ما لبثت أن شكلت بدورها شرط الدين ووضعه في العصر الدنيوي هذا الذي نحيا عليه.
لقد كان يعني الاعتقاد/الإيمان في تقليد العصر الوسيط ـ وهو التقليد الذي استمر لقرون من الزمان مديدة ـ بالأساس عباد الرب المتواضعين الذين لا يمشون في الأرض مرحًا والذين يقبلون الحقيقة الربانية ويتلقونها، بل يتلقفونها، من المرجعية الدينية ـ الكنيسة ـ وما كان الاعتقاد شأن الجبارين المتكبرين الذين يمشون في الأرض مرحًا والذين يعتقدون أن بمكنتهم أن يحكموا على الحقائق الغيبية بعقولهم. ومن ثم، ما كان مفهوم "الاعتقاد"، في هذا الأنموذج التقليدي الوسطوي، يعني الحكم المنطقي المستند إلى الحجة وإلى البرهان، بقدر ما كان يعني الوثوق بأن كلا من عقلنا وتجربتنا على ضلالة.
وقد حدثت بدايات التحول في مفهوم "الاعتقاد/الإيمان" في القرن السادس عشر. وهي التحولات التي جعلت من مسألة "الاعتقاد" مسألة عاجلة في الغرب المسيحي. لكن المؤلف يذهب إلى أن حركة الإصلاح الديني، وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون، ما كانت هي أداة الحداثة، وإنما الأمر بالضد؛ إذ إن مفهوم "الاعتقاد" الجديد تطور باعتباره ردة فعل ضد ديانة لوثر وكالفن، مثلما تطور أيضًا ضد مجمع ترنت المسكوني الذي كان قد استدعاه الباب الثالث ضد دعاوى لوثر يوم 22 مايو 1542، وشكل منطلقاً لحركة الإصلاح المضادة.
عصور الاعتقاد
يرصد المؤلف "ثورتين" حدثتا في مفهوم "الاعتقاد/الإيمان" بعد العصر الوسيط:
-
الأولى تمثلت في ضرب من احتكار مختلف الفرق الدينية للاعتقاد/الإيمان. ذلك أن مختلف الطوائف الدينية المسيحية ـ البروتستانت والكاثوليك والتعميديين ـ ساهمت، في القرن السادس عشر، في مشروع مشترك لجعل الاعتقاد/الإيمان قشفا متشددا. وإذ واجهت منافسة شديدة غير مسبوقة، وإذ يئست من الحفاظ للاعتقاد المسيحي على هالة إبستيمية [معرفية] خاصة، عمدت الكنائس المتنافسة إلى إعادة تعريف "الاعتقاد/الإيمان" بوسمه وضعا امتيازيا خاصا يحظى به المصطفون، وعدَّته مقاما مخصوصا لا يتوفر في عدد كبير من البشر، بل في غالبيتهم. وكانت هذه هي الثورة الأولى في المعرفة الدينية، وقد شكلت مشروعا إقصاء وتدجين جمعت حولها جماعات المعتقدين/المؤمنين ضد عالم صار يُدرك الآن على أنه عالم مثخن حد التخمة بعدم الاعتقاد/ الكفر.
-
لكن هذه الثورة في مفهوم "الاعتقاد/الإيمان" سرعان ما تولدت عنها ثورة ثانية كانت بمثابة ردة فعل المنشقين عن الاتجاهين معا ـ الإصلاح الديني والإصلاح المضاد ـ رافضة منطقهما المتشدد القشف. ولهذا فقدت هذه الحركة الإيمان، عاكسة بذلك التقسيم الذي كان قد حدث بين الاعتقاد المسيحي والطريقة الدنيوية في المعرفة. كانت هذه هي الثورة الثانية التي شهدت عليها المعرفة الدينية. وهي التي أدت إلى ميلاد الاعتقاد الحديث. كما أن هذه الثورة، حسب ما يرى المؤلف، ما كانت أقل قيمة من الثورة العلمية. ولا غرابة أن تتعاضد الثورتان.
تأسيسا عليه، يتساءل المؤلف طارحا إشكاله الأساس: فإذن، ما هذا الذي أمسى يسمى باسم "الاعتقاد الحديث" والذي بات يتطلب تأريخاً له؟ قد يجيب بعضهم: لا حاجة للاعتقاد بتاريخ، الاعتقاد هو الاعتقاد، هكذا كان وهو على ما كان عليه وسيظل إلى الأبد هكذا. ومن هنا، لا سبيل إلى الحديث عن قديم اعتقاد وعن حديثه ... وقد يميل البعض، بالضد من هذا، إلى أنه حتى على فرض أن للاعتقاد تاريخا، بل وتواريخ، وأن الاعتقاد متعدد، فإنه ما كان من شأن الاعتقاد أن يستقيم على تصور واحد، حتى في العصر الحديث؛ مات دام أن لكل جماعة اعتقادها وتصورها للاعتقاد. ومن ثم، يستحيل الحديث عن مفهوم واحد للاعتقاد الحديث.
في افتتاحه الحديث عن معنى "الاعتقاد الحديث" وعن تميزه عن الاعتقاد الوسيط والاعتقاد الإصلاحي، ينبه المؤلف إلى أنَّه يكاد يكون مفهوم "الاعتقاد/الإيمان" من الألفاظ الأضداد؛ إذ يُفيد معنيين متضادين: يفيد، من جهة، معنى اليقين المطلق، ويفيد من جهة أخرى معنى الاحتمال المبهم. فقد يفيد القناعة العقلية، وقد يُفيد ما يثير القلب أو فعل الجسد. ويمكن للاعتقاد أن يستجيب إلى العقل، كما يمكنه أن يتمرد على العقل. ولهذا لئن سئل الناس: هل تعتقدون/تؤمنون بالله؟ فإنَّ الجواب ينبغي أن يكون: "وما هذا الذي تعنيه بالاعتقاد؟" ففي الجوامع والبيع والكنائس يوقن الناس باعتقادهم الديني، لكن في محيط دنيوي يجد الناس منقلبهم بين اللا-أدرية والإلحاد. وهكذا، فإنه في زمن الحداثة اتخذت مسألة الاعتقاد لبوساً خاصًا. فقد صار السؤال، مثلا، ممكنا بوفق الصيغ التالية: هل تؤمن بالاحتباس الحراري؟ أو هل تعتقد في الأشباح؟ وبالتالي، فإنَّ هذه الكلمة البسيطة ـ الاعتقاد ـ أمست تتضمن معاني متباينة. فهل الاعتقاد في الله أو الإيمان به من جنس الاعتقاد في الاحتباس الحراري أو الإيمان بالأشباح؟ هذا يدفعنا إلى إعادة طرح سؤال الاعتقاد. وهو ما رامه المؤلف في مؤلفه هذا.
والحق أن مفهوم "الاعتقاد" اكتسى لبوسا جديدة في العصر الحديث؛ إذ أمسى مفهوما مرادفا لمفهوم "إبداء الرأي" أو "الحكم على شيء معين". ومن ثمة، صار فضاء للتعبير عن استقلال الذات التي ترتئي وتحكم، أكثر مما بقي يتعلق بالأوامر التي تصدر إلى الذات وتلزمها بالفعل وتحملها على التصرف. وبما أن الرأي أو الحكم مهمان للمجتمعات الحديثة، فإن السؤال: "ما الذي يعنيه الاعتقاد؟" سوف يستدعي من سيادة الذوات الحرة أن تقرر لذاتها ما هو اعتقادها. ففي مجتمع أفراد مستقلين ومجتثين من أرض التقليد، فإن اعتقاداتنا هي التي تجعلنا ننجد موقعنا في العالم؛ أي صرنا نُعرَف من خلال اعتقاداتنا، واعتقاداتنا هي التي صرنا نُستَعرف بها وتحدد هويتنا باعتبارنا مستهلكين ومصوتين ومشاركين طوعيين في مجتمع مدني ومختارين ... وذاك هو اعتقاد ما بعد الأنواريين. وهو ما يسميه المؤلف، مأخوذا على وجه الجملة، باسم "الاعتقاد الحديث"؛ بمعنى أن الاعتقاد أمسى مرادفا للحكم الخاص؛ ومن هنا، فإن الذوات الحديثة باتت تعتقد أو لا تعتقد، تؤمن أو لا تؤمن، بالقياس إلى تصورها حول ما إذا كانت قضية ما قضية ذات مصداقية.
وسمة أخرى للاعتقاد الحديث، هي أنه وإن صار، مبدئيا، نابعا من اتباع هدي العقل، وذلك حتى وإن هو حكم بما لا يقتضيه العقل ـ أَوَ لسنا نتذكر قول باسكال: للقلب أسبابه التي لا يفهمها العقل؟ ـ ومن ثمة، لا ينم عن اتباع نظام خاص ـ نظام العقلانية بمعناها الضيق مثلا ـ بقدر ما ينم عن فضاء ومجال حيث تدار المجادلة المعرفية. ذلك أن شأن الناس، تبعا للمعنى الحديث للاعتقاد، ألا يعتقدوا بنفس الطريقة وبنفس الاعتقاد، ولكنهم يتصرفون بوفق منطق أنهم صاروا أداة للدفاع عن حقهم في إصدار الأحكام. فالتوافق بين الناس هنا حادث حول الفضاء نفسه: كل واحد حر في أن يختلف مع الأغيار، وأن يعرض ما يعتبره أفضل حجة، لكن لا أحد ينكر منزلة الآخرين من الاعتقاد وحقهم فيه، أو يقول لهم بأن ذاتيتهم لا ترقى إلى مستوى الاعتقاد. بمعنى أن فكرة الاصطفاء من أجل الاعتقاد أو الإيمان قد انتهت.
وهكذا، يعد كتاب "الاعتقاد الحديث" تأريخا عميقا لتشكل المفهوم الحديث للاعتقاد. وهو يظهر كيف أن التنوير صار هو من يسمح للدين بتجديد ادعاءاته وما عاد الأمر بالعكس. ويُظهر المؤلف كيف أن الاعتقاد الحديث بزغ في القرن السابع عشر بحسبانه نقدا للنزعة الطائفية الإقصائية، وباعتباره تحررا أكثر منه تحديدا وتقييدا. فذاك المفهوم الذي أحدث التعصب قديما، ها هو ـ ويا لسخرية الأقدار ـ يقود حركة تحرر الإنسان الحديث: كل حسب اعتقاده.
ومن منظور تاريخ الاعتقاد، فإن ما هو جديد حاسم في الحداثة ما كان هو قبول تعدد الأحكام ـ إذ حتى القدماء كانوا يعلمون أن الإجماع أمر نادرا ما يحصل ـ ولكنه بالأولى الفضاء الذي صار يستقبل تعدد الأحكام التي يصدرها البشر على أنها ينبغي أن تُقبل بوسمها اعتقادات. وهكذا، فإن مقولة "الاعتقاد" نفسها قد تطورت إلى ضرب من الفضاء الإبستمولوجي الجديد الذي يقبل التعدد والتنافس، بحيث أن التعدد الذي كان يمثل في الاعتبار القديم أزمة أو غياب الاعتقاد أو الإيمان، صار يعني، بحسب الاعتبار الجديد، الاعتقاد نفسه. ففي الحداثة، الاعتقاد هو الفضاء الذي تقوم فيه كل الادعاءات باعتبارها بدائل متقايسة متساوية بدل فضاء كان فيه ادعاء واحد ينتصر على باقي الادعاءات. ومن ثمة، أمسى الاعتقاد الحديث يمثل ضربا من النظام بدل الفوضى. وبما أن الناس أمسوا يؤمنون بأشياء مختلفة، فإنهم صاروا، عموما، يقبلون بالمنزلة المعرفية لاعتقادات كل إنسان إنسان بوسمه اعتقادا ينبغي أن يحظى بالاحترام حتى وإن كان لا يعجبهم. وها هم باتوا يتجادلون حول ما إذا كانت اعتقادات معينة مسوَّغة ومأمونة وحقة أو جيدة؛ هذا بينما المسيحيون القدامى كانوا ينكرون اعتبار ادعاءات الناس اعتقادات بالمرة. وهذا التغير ما كان مجرد تغير في دلالة "الاعتقاد"، وإنما هو أمارة أساسية على سيادة الشخص؛ مما تتولد عنه شروط إقامة السلم في مجتمع متعدد.
وما كان الإصلاح الديني هو من دشن هذا التغير. ذلك أن مذهب التأويل البروتستانتي لم يكن هو من فتح الاعتقاد أمام الحكم الخاص، وإنما كان أتى ببديل تسلطي مبني على أساس من أن اعتقاد الفئة القليلة من شأنه أن يغلب عدم اعتقاد الفئة الكثيرة. ومن هناك، فإن حركتي الإصلاح والإصلاح المضاد ساهمتا في مشروعين متوازيين للتدجين الديني؛ إذ بينما الكاثوليكية دجنت الساكنة على الاعتقاد أو على الإيمان، دجنت البرتستانتية جمهور غير المؤمنين/غير المعتقدين. وبالتالي، ما نبع الاعتقاد الحديث من هذه الطائفة ولا من تلك. وإنما نشأ، بالضد من هذا، باعتباره ردة فعل على النظام القشف القوي اللتين أقامتاه.
ويتساءل المؤلف: لماذا لم يُكتب تاريخ للإعتقاد؟ ويستبعد سببا ويستحضر أسباب أخرى. أما ما يستبعده فهو ما ادعاه البعض أن الإعتقاد يبدو مفهوما "طبيعيا" و"بدهيا" ولذلك لم يشعر الباحثون بالحاجة إلى تزويده بتاريخ. والحجة المضادة هي أن ثمة مفاهيم تشبهه ـ الحقيقة مثلا ـ ومع ذلك وجدت من يؤرخ لها. وأما ما يستحضره من أسباب، فإن أحدها يكمن في المقام الامتيازي للدين، بحيث لا جراءة عليه، وبحيث أنه داخل "المشكلة المعرفية"، يبقى الاعتقاد أقدس الأقداس. وثاني الأسباب أن من شأن التأريخ للاعتقاد/الإيمان أن يتحدى مسألة ما لا ينقال وما لا يتزمن؛ ومن ثمة فإنه يتحدى العقدية الدينية.
منهجية الكتاب
يمكن أن نميز في المنهجية التي استعملها المؤلف للتأريخ لمفهوم "الاعتقاد"، ولا سيما لمقولة "الاعتقاد" الحديثة، بين وجهين: سلبي وإيجابي.
من الجهة السلبية، هذا الكتاب كتاب بحث لا كتاب عقيدة، ونظر إبستمولوجي في الاعتقاد الدين لا اعتقاد ديني؛ وبالتالي ما كان كتابا في الاعتقاد كما يعيشه أصحابه ويعانونه. ومن جهة الإيجاب، يدرس الكتاب الاعتقاد خارج موطنه الأصلي، لدى عامة الناس، في خلوة النخبة الدينية المفكرة وغير الدينية الناظرة، وليس بين أفناء الناس. لكن فضله يكمن في أنه ينفلت من ادعاء أن الاعتقاد هو مضمون الدين الإيجابي، وأنه حاضر دوما في كل فعل أو ادعاء على التساوي ليس من شأنه أن يُساءل أو أن يُستشكل.
لقد رسم المؤلف خريطة واسعة من خمسمائة سنة سماها خريطة الاعتقاد، متجاوزا عن بعض التفاصيل الموغلة، مؤمنا بأن التغير في مفهوم "الاعتقاد" ما حدث هكذا فجأة عن غدارة، وإنما كان أمرا بطيئا وغير متكافئ. ثم إنه حصر الموضوع في المسيحية، ولم يتطرق إلى اليهودية أو الإسلام الذين يعتبر أنهما لعبا دورا مهما في الغرب وساهما في "الحداثات". لقد ركز على موضوع الاعتقاد في الله وفي العقائد الأساسية، مغطيا بلدان بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندة وإسبانيا وإيطاليا.
والخلاصة المفارقة التي انتهى إليها المؤلف من جولته الممتعة عبر الأزمنة والأمكنة هي التالية: على خلاف ما يُعتقد، فإنه عوض أن ينحسر الاعتقاد في زمن الحداثة، انتشر انتشاره الأكبر لكي يغزو كل مناحي الحياة الحديثة. لقد حل الاعتقاد في كل مكان. وبدل أن تكون دنيوية الحداثة قد فصلت الإيمان/الاعتقاد عن العالم، فإنها، بالضد، فتحت الاعتقاد على العالم كله، محررة بذلك مفهوم "الاعتقاد/الإيمان" من دلالته المسيحية المخصوصة.
-----------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب :مولد الاعتقاد الحديث
مؤلف الكتاب : إيثان شاغان
لغة الكتاب : الإنجليزية
دار النشر : مطابع برينستون
دار النشر : مطابع برينستون
مكان النشر : أوكسفورد
سنة النشر : 2018
عدد الصفحات : 325
