جدلية السلطة بالدين في التيارات الإسلامية

ناصر الحارثي

يستعرض مقال "الدين والدولة في أزمنة التغيير: المنظور النهضوي ومُتطلباته" المنشور في مجلة التفاهم وجهة نظر هامة لجملة من الأحداث والمراحل السياسية والدينية التي أثرت وبشكل كبير في نشوء وتشكل عدد من التيارات الإسلامية في العصر الحالي، حيث سعى الكاتب إلى تحليل مسيرة الفكر الإسلامي السياسي وكيفية تفاعله مع المُعطيات التاريخية والظروف السياسية بطريقة أساسية تساعدنا على فهم الأحداث السياسية الحالية.

سعى الكاتب إلى تلخيص مراحل التفكير الإسلامي في علاقة الدولة بالدين حيث بدأت المرحلة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر وذلك بعدما تفاجأ العرب والمسلمون بالاحتلال الغربي لدولهم وتقدمهم الحضاري غير المسبوق، ولعل أبرز من تحدث في هذه القضية إبان تلك الفترة الطهطاوي وخير الدين التونسي وهم من مدارس إسلامية مُختلفة حيث درس الطهطاوي في الأزهر بينما تتلمذ خير الدين التونسي في كل من تونس وإسطنبول، وركزت مناهجهم على أهمية الانطلاق من المنافع العمومية وتجاوز التقليد، وبعدها جاء المفكر الإسلامي الأبرز في بدايات القرن العشرين

ألا وهو الإمام محمد عبده والذي اهتم كثيرًا في مسألة السننية وعاش تجربة سياسية متقلبة من خلال الثورة العرابية، ولقد سعى محمد عبده إلى خلق حركة نهضوية مقاومة للاحتلال البريطاني مع ضرب فكرة التقليد وضرورة الاندماج في حراك مدني قومي فاعل، إلا أنَّ المرحلة الثالثة اتسمت بالتراجع والتي كانت في فترة مؤسس مجلة المنار محمد رشيد رضا أحد أهم تلامذة محمد عبده ويرى الكاتب كغيره من الكتاب أن سبب التراجع هو سقوط الدولة العثمانية في تركيا، ورغم أنَّ الهند ومصر لم تكونا تابعتين للخلافة العثمانية إلا أنَّ الحركات الإسلامية فيها كانت أكثر خشية وقلقاً من سقوط الهوية الإسلامية من خلال الحراك العلماني بقيادة أتاتورك، أما المرحلة الرابعة والتي تعتبر أكثر تأثيرا والسبب الأبرز في ذلك هو نشوء الصحوة الإسلامية وهي فترة سيد قطب صاحب كتاب في ظلال القرآن ومعالم في الطريق والذي كان من أبرز الليبراليين العرب

المتخصصين في النقد الأدبي قبل أن يصبح مفكرا إسلاميا بارزا جدا، ولقد كانت تجربته السياسية والتي انتهت بالإعدام من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر مثيرة للجدل إلى يومنا هذا، فلقد كان سيد قطب أحد أبرز المُنظرين لمسألة الحاكمية لله والتي بسببها تعرض لهجوم شديد من قبل منتقديه في حين أن العديد من مؤيديه اعتبروا أن سيد قطب يدافع عن فكرة ولم ينطلق من منهج تكفيري خاصة وأنه ابتعد كل البعد عن التكفير والإقصاء في جل كتاباته، ولكن ما يهم في أي حالة سياسية هو ليس حقيقة ما كتبه الكاتب بل نتيجة ما كتبه، حيث إن البعد السياسي الذي أخذته كتابات سيد قطب جعلت الحركات الإسلامية إما تنغلق على نفسها كما حصل عند الإخوان المسلمين أو أنها تنحى إلى التطرف والتشدد بداعي حماية الدين والاستناد إلى الحاكمية المطلقة لله والتخلص من الجاهلية التي نعيش فيها، ورغم محاولة عدد من الدول مداهنة هذه التيارات الدينية تارة وإقصائها تارة أخرى وبالأخص في فترة أنور السادات إلا أن ظهور الثورة الإسلامية الإيرانية وإنشاء حكم ثيوقراطي في إيران بنظام ولاية الفقيه جعل من الدول العربية تتخذ قرارا حاسما تجاه التيارات الإسلامية، في حين تنامت عند التيارات الإسلامية سواء الجهادية أو غير الجهادية إمكانية تغيير الواقع وتطبيق الشريعة وإقامة حكم إسلامي، إلا أنَّ هذه الرغبة كانت دائماً مضطهدة من خلال دولة سلطوية عسكرية مستبدة تقمع أي حركات تغييرية لا تكون على مناخ ومزاج السلطة الحاكمة.

 

على طول هذه الأحداث السياسية وسط علاقة متوترة ومتذبذبة بين السلطة الحاكمة والتيارات الدينية من جانب وبين السلطة الحاكمة وشعوبها من جانب آخر، حدثت الثورات العربية في عام 2011 ولقد أدلت كل تلك المؤثرات بدلوها بين مطالبة بالحرية والكرامة ولقمة العيش، ومطالبة بتطبيق الشريعة أوإقامة دستور جديد، وتكررت هذه المطالبات بدرجة متفاوتة في الحدية والتأثير بين الشعوب العربية تبعًا لطبيعة الحراك والأحداث السياسية القائمة، ولكن أهم جدلية ظهرت وبشكل بارز في تلك الأعوام القليلة والتي أحدثت الكثير من التساؤلات وأسالت العديد من الأقلام والأطروحات، وناقشتها الكثير من البرامج المتلفزة في العالم العربي هو علاقة السلطة بالدين. لنرجع مجدداً إلى التاريخ لنطرح سؤالا مباشرا وأساسيا هل يوجد في الإسلام دولة دينية؟ وهنا نشير بطبيعة الحال إلى عهد النبي ودولة الخلافة.

 

يمكن القول إنَّ السؤال حول طبيعة الخلافة الإسلامية هو سؤال مهم وحيوي وليس سؤال قضية تاريخية ميتة، فجدلية الدولة بالدين منطلقة من طبيعة الحكم وعلاقته بالإسلام والموقف من الحكم المدني ومن العلمانية، فالحكم وإن اختلف في تمظهراته إلى أنه ينطلق من مشكاة واحدة فالحاكم هو من يسيس أمور الناس ولم تكن الدول العربية والإسلامية يوما مختلفة عن باقي الدول في تصوراتها حول حكم الدولة، فلقد كانت مبنية على منافع الناس ومصالحها، دون جعل الحكم تنزيهاً وتنزيلا من عند الله، فانطلقت مجالس الحكم تحكم بالأدوات المتوفرة وهي آراء أهل الكلام في التأويل والاستنباط دون تقييد أو التزام شرعي بأحكام السابقين، ولعل من أهم إشكاليات إلزام السلطة بالدين هو خلق مناخ مقيد للدين ينتج عنه استبداد وقمع، لأنك تلزم ما هو زمني دهري وهو السلطة بعلاقة الفرد مع الرب وهو الدين، فالتدين هو شأن فردي خاص يصل تأثيره إلى المجموعة، أما السياسة فهي حكم بما يخدم مصالح المجتمع، ومن ثمّ فإن ربط الدين بتيار أو حزب سياسي مخاطرة حقيقية ومجازفة أكبر إذ يصبح ذلك الشخص أو ذلك الحزب هو المتحدث باسم الله، وإذا ألزمنا السلطة بالدين ضاق الناس ذرعا بذلك الدين وأصبح التقييد باسم الدين لاباسم السلطة، لذلك لم يكن حكم أبي بكر كحكم عمر ولا حكم عمر كحكم عثمان، وما الدعوى إلى تطبيق الشريعة والحكم بالدين إلا دعوى مستحدثة نشأت لحماية تيارات إسلامية سياسية معينة من قمع سياسي، وهو ما يحاكيها من مصطلحات جديدة مثل الاقتصاد الإسلامي، والقرآن دستورنا رغم أن كلمة دستور مستحدثة، وكذلك القول "الإسلام هو الحل". إن هذه الشعارات تتضخم نتيجة المنع وليس نتيجة التجربة السياسية والاقتصادية وسنة التدافع، لذلك ليس غريباً أن تغير التيارات الإسلامية توجهاتها بشكل براجماتي بحت عند وصولها للسلطة، من خلال إيمانها بالنظام الديموقراطي والمجتمع المدني واللجوء لصندوق النقد الدولي بدل الاقتصاد الإسلامي، هذه التجارب الواقعية للتيارات الإسلامية أثارت خوف البعض من البراجماتية الفجة التي قد يوصلها إلى الاستبداد بالسلطة في حين زادت من تفاؤل البعض في نهوض التيارات الإسلامية من مستنقع العبارات والآراء التقليدية إلا أنها في نهاية المطاف لم يكتب لها الاستمرار، بل تراجعت وتقهقرت مع تراجع الثورات العربية وعودة الاستبداد العسكري من جديد، لتبقى التساؤلات موجودة حول علاقة السلطة بالدين وهل الحكم أمر مجتمعي أم تشريعي؟

 

أخبار ذات صلة