عاطفة المسكرية
إنَّ التنظيمات والتجمُّعات البشرية بطبيعتها تهدف لتحقيق غايات محددة، أيًّا كانت هذه الغاية فغالبا ما تكون مشتركة تؤدي إلى تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم من أجل المصلحة الجمعية المراد تحقيقها. هذه الفكرة الأساسية التي تدور حولها نظرية العقد الاجتماعي التي جاء بها جان جاك روسو في كتابه، وأشار إليها أيضا بعض المفكرين التنويرين -من أمثال جون وتوماس هوبز. ويشير الباحث التونسي المعاصر وأستاذ الفلسفة بجامعة تونس عبدالعزيز لبيب إلى هذه النظرية، وتتابع التغيرات القائمة على تبنيها في المجتمعات البشرية، في مقال له بعنوان "نظرية العقد الاجتماعي من هوبز إلى روسو" والمنشور بمجلة "التفاهم"؛ حيث تقوم الفكرة على التنازل من قبل جميع الأطراف عن بعض السلطات والصلاحيات في سبيل ضمان وتحقيق الغاية الكبرى، والتي هي "حق الحياة بسلام" إذا ما جِئنا نتحدَّث على مستوى التجمعات البشرية الكبرى. وأول الحقوق المتنازل عنها هي الحرية كما ورد؛ فهنالك فارق بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية. فالأولى تعد أشمل إذا ما جئنا نقارنها بالثانية؛ لأن الحرية المدنية أنشئت تحت ظل نظام الدولة؛ حيث يعيش الأفراد ممارسين أنشطتهم خاضعين لنظام سياسي متفق عليه بينهم ينظم الحياة البشرية في بقعة جغرافية محددة ضامنا حقوق وواجبات كل الأطراف. وإن حدث شيء في غير هذا السياق سيعد خللا في هذه المنظومة، وقد يؤدي إلى تغييرها متى ما تراكمت وكثرت الظروف المؤدية إلى ذلك.
إنَّ الحرية المطلقة لا تتماشى مُطلقا مع الحرية المدنية على عكس الحرية الطبيعية؛ فالأخيرة تجعل الشخص غير خاضع لأي من القوانين عدا القوانين الطبيعية. أما الحرية المدنية، فيصبح فيها الفرد خاضعا للتشريعات التي يضعها مشرع تم اختياره وفق آلية متفق عليها. انتقالا لما بعد ذلك، فالملكية الطبيعية تندرج أيضا تحت قائمة الأمور المتنازل عنها في سبيل تحقيق مصلحة جمعية كبرى؛ فالإنسان في الظروف الطبيعية، بعيدا عن التنظيمات البشرية يستطيع استخدام القوة التي يملكها "فطريا وطبيعيا"، بما يحلو له وبما يتناسب مع مصالحه دون النظر لمصلحة الآخرين بل قد يمتد الأمر في بعض الأحيان إلى الإضرار بالطرف الآخر دون عواقب رادعة. جاءت الدولة لتعكس كل ذلك ولتضع حدودا عبر قوانين تقتضي مراعاة مصالح الآخرين وعدم الإضرار بهم، وإلا تعرضوا للمساءلة القانونية بسبب ذلك.
إلى جانب ذلك، تتحتم عملية التنازل هذه بالتنازل عن تحديد آلية تحقيق المساواة والتكافؤ بين البشر، فيتم إحالة الأمر إلى الجهات المناط إليها مسألة ترتيب وإحقاق العدل والمساواة ما بين الأفراد في المجتمع الواحد. إن الغاية الكبرى التي يسعى البشر لتحقيقها هي الحفاظ على الجنس البشري وضمان ذلك عبر تطبيق أقصى العقوبات الرادعة لأي محاولة من محاولات انتهاك هذا الأمر. وبالإمكان تحقيق تلك الغاية دون أي تنظيم، لكن سيقتصر الأمر على فئات محددة تمتلك القوة وأدوات النجاة. والدليل على ذلك أنه في السابق وبسبب محدودية النظر كنا نقر بأنه من يريد ممارسة حريته المطلقة بإمكانه تحقيق ذلك في الغابات بعيدا عن التجمعات والقوانين المدنية، إلا أن شريعة الغاب تنفي ذلك أيضا، فطغيان القوي في غياب النظام بجانب الفوضى وغياب السلطة تمنع تحقق الحرية المطلقة كذلك. ذكرنا في السابق أن القوانين المدنية وضعت لغاية، لكن من وضعها هم بشر، ومن هذا المنطلق من المتوقع بل من البديهي جدا أن لا تتناسب ولا تحقق هذه الغاية لكل الفئات فهنالك استثناءات. إن قدرة القانون على تحقيق الغاية التي وضع لأجلها للغالبية العظمى يكفي لاعتماده كقانون سار على الجميع. فالتنظيم السياسي كالدولة مثلا يتكون من مجتمعات، وتتكون المجتمعات من مجموعة أسر التي بدورها تحتوي على أفراد ينخرطون في المجتمع لممارسة أنشطتهم الحياتية والتي بدورها تكون منظمة ومحدودة ضمن حدود القانون. هذه الفلسفة العكسية اخترعها البشر من أجل خدمتهم أي أنهم قاموا بتفويض السلطة لمن يأتمنونهم من أجل تحقيق الأمن والسلم، وكل الظروف المحققة للحياة الطبيعية. وأكثر من تحدث عن تفويض وطاعة السلطة هو هوبز "فهو الذي أعطى السلطة الحق في أن تُطاع، وأن يخضع لها الإنسان حتى يسلم بنفسه من القتل والظلم الذي سيناله من رفيقه الإنسان. وينطلق في هذا من فلسفته التي يقرر فيها أن حالة الإنسان هي حالة حرب الجميع ضد الجميع"، عدا أن سلطة الحكم وعلاقتها بالمحكومين بدت متغيرة خلال السنوات، واختلفت أنواعها كذلك؛ فمنها الحكم الديموقراطي، ومنها الاستبدادي والدكتاتوري والملكي...وغيرها من الأنظمة الأخرى. وبعض هذه الأنظمة قد لا تُحقق الأمن والسلم، لكنها تملك السلطة بقبضة حديدية. لكن هناك أنظمة بالمقابل تسعى لتحقيق الغرض الذي تقلدت المنصب السياسي لأجله؛ حيث يشعر الشعب أنه يشارك في كافة القرارات وبشكل مباشر أحيانا عن طريق ممثليهم في البرلمانات.
حقيقة الأمر من المفترض أن تتنحى القيادة إذا لم تستطع تحقيق عنصريْ الأمن والسلم، دون مُبررات منطقية، خاصة إذا كان ذلك مطلبا شعبيا. إذا ما جئنا نتحدث عن هذا الأمر سنشرع بالحديث عن مسألة الشرعية المكتسبة من الشعب، وهذا موضوع يطول الحديث فيه. لكن إذا حاولنا فهم وتطبيق الأمر على الأوضاع الحالية لأنظمة الحكم، ونتخذ من بعض الدول غير المستقرة نموذجا في ذلك نجد أن عنصر السلم والأمن أصبح غير متوفر وفئة ليست بقليلة من الشعب تطالب بمغادرة القيادة. مع ذلك ما زالت السلطة الحالية موجودة ومتمسكة بالسلطة بدعم وتدخل خارجيين. ففي العصر الحالي، تغيَّرت العناصر المشكلة للسلطة، وتداخلت أمور أخرى بعضها يعد إيجابيا، والبعض الآخر يؤثر سلبا على الأمر؛ حيث جعله يصبح أكبر من مجرد عقد بين الشعب والسلطة؛ فيه ضمان حياة الشعوب مقابل التنازل عن بعض سلطاتهم. وأحيانا يصبح توجه السلطة لا إراديًّا ينحصر في أفق ضيقة لتحقيق الرفاهية وضمان المصالح الشخصية. وهذه المرحلة تحدث عنها ابن خلدون في نظريته التي تفسر قيام الدول وسقوطها ابتداءً من مرحلة الظفر بالسلطة، وانتهاءً بالانهيار نتيجة الفساد المتفشي والخلل في تسيير دفة السلطة بمحكوميها (الدولة). ومن جانب آخر، أصبح هناك استفتاء شعبي وأدوات رقابية على السلطة يتم استخدامها من قبل ممثلي الشعوب في البرلمانات. ومن هذا المنطلق، بإمكاننا القول أن العقد الاجتماعي بفكرته القائمة تلك لا يزال مطبقا، لكن بمزيد من العناصر المستحدثة في تشكيلة الدولة، مقارنة بوضعها السابق الذي بدوره يؤثر على مدى الالتزام بالعقد.
