أسعد الحراصي
الوجود الإلهي يعتبر من أهم المواضيع المطروحة على مائدة الفلسفة الدينية؛ وذلك لما لهذه القضية من تبعات على جوهر الموجودات في هذا الكون الشاسع، وهي قضية تنطلق من القدرة المطلقة والممثلة في قدرة الإله على الوجود وقد كثر الجدال والنقاش حول حقيقة وجود الخالق وماهيته، وممن كتب في هذا الشأن هو الفيلسوف البريطاني ألفراد نورث هوايتهد.
يفتتح الكاتب مقاله المنشور في مجلة التفاهم المعنون بـ"الذات الإلهية وتداعيات الفكر" بالحديث عن الوجود الإلهي، حيث يصرح بأنّ الفكرة الوحيدة التي أصبحت تمثل مجالا للتفكير والنقاش في الفلسفة الدينية وبالتحديد في الأزمنة الحديثة هي: ماذا نعني أو نشير عند قولنا: الله، وأن المعنى الحاصل في الذهن من جراء كلمة الله لا يختلف مضمونه اليوم عما كان بالأمس، معللا ذلك كونه اعتقادا دينيا أساسيا وتندرج معه الدوغمائيات الأُخرى التابعة له. والدوغمائية هي التعصب الكامل للفكرة بشكل مطلق، حتى لو لم يكن هنالك أي دليل عليها. ولم أجد الكاتب أشار لهذه الدوغمائيات وقد اكتفى بمفهومها العام دون إعطاء مثالا عليها، لينطلق الكاتب بعدها في إيضاح الأفكار الثلاثة الرئيسية التي تفسر رؤية الوجود الإلهي -الله- للعالم:
- المفهومُ الشرق آسيوي لنظامٍ غير مشخَّص: يتمثل فكرة هذا المفهوم أن الله مبدأ لا شخصي، متوحد مع الطبيعة ويزعم أن كل شيء هو الله أو الله هو كل شيء، وأن الله ليس مستقلا عن العالم وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية. وهذا المفهوم بحد ذاته يعبر عن العقيدة القائلة بالحضور الكلي والشامل للكون.
- المفهوم السامي لذاتٍ إلهية شخصيةٍ، متفرّدة: ينص فيه على أن وجود الذات الإلهية وجود أساسي وميتافيزيقي ومطلق وواقع لا شروط عليه، لأنه واهب الحياة ومنظمها أوجد العالم الذي نراه ماثلا أمام ناظرينا ونتعقله. والمفهوم السامي يقصد به عقلنة لآلهة القبائل الذي تطور عن ديانات الجماعة فهو يرمز للعقيدة المتشددة الناتجة عن الترفع والتسامي.
- المفهوم المتجسّد للذات: الذي يمكن فهمه بالمعنى السامي بحيث أنه لو فكر الأنسان بالعالم الحقيقي من دون إله، فإنّه يصبح بذلك غير حقيقي. وبهذا المنطق فإنّ الحقيقة الوحيدة في هذا العالم هي حقيقة الله، وهذا التصور هو عقيدة المتطرف الأوحد Monismus.
من خلال المفاهيم الثلاثة يمكننا أن نستشف مدى قربها من بعضها البعض، ففي التصور الشرق آسيوي والتصور التجسيمي نجد أنّهما يلتفان حول بعضهما، ففي التصور الأول عندما نتحدث عن الله فإننا في ذات الوقت نقول شيئا عن العالم، وبحسب التصور الثاني فإننا بمجرد الحديث عن العالم فكأننا نقول شيئا عن الله. بينما نجد أن التصور الشرق آسيوي والتصور السامي في تناقض والمحاولة للوصول إلى نقطة وسط بينهما -حسب رأي الكاتب- تقود إلى تعقيدات في التفكير.
إنّ التصور السامي للذات الإلهية يعترض طريقه -حسب الكاتب- صعوبات رئيسية تتمثل في أمرين اثنين: الأمر الأول هو أن تصور الله يبقى خارج كل ميتافيزيقيا معقلنة. وحدود معرفتنا تقتصر على أنه موجود وأنّه أوجد هذا العالم والقادر عليه، (وهذا الفهم تبدو فائدته ظاهرة جلية وهو أن كل غير مفهوم أو غامض يحدد قراراته وتوجهاته). وفي رأيي الشخصي أنّ هذه المقولة فيها نوع من المغالطة لأنّ كل غير مفهوم أو غامض لا يعني بذلك أن يكون سيد قراراته وتوجهاته. وأمّا الصعوبة الثانية فتبدو في التدليل على وجوده ولكن لا يمكن أن يجزم الكاتب من وجهة نظري بصعوبة التدليل على الإله، وذلك لكون الكاتب اقتصر في رأيه بعرض برهان واحد فقط وهو البرهان الذي يصفه بأكثر البراهين التي تدلل على وجود الذات الإلهية. بينما توجد براهين أخرى ليست أقل أهمية وقوة في التدليل على الذات الإلهية. والبرهان الذي استدل به الكاتب هو" البرهان الوجودي " وهو برهان وضعه أنسلم وقام ديكارت بتجديده والذي يمكن أن نفسره على النحو التالي: إن التفكير بكائن عظيم لا متناهي العظمة هو دليل على وجود الذات الإلهية وقد اعترض على هذا الدليل كانت والكاردانيل مرسيه. والمعترضون يرون أن هذا البرهان يستطيع اكتشاف حضور الله ولكن ليس الإله المتعالي بشكل دائم ومطلق، بيد أنّ هذا البرهان ليس ضعيفا بل يراه البعض قويا بما فيه الكفاية للصمود أمام حجج المعترضين.
ثم ينقلنا الكاتب بعدها ليبين حال عقيدة المسيحية حيث يرى أنّ المسيحية ورثت التصور السامي البسيط ويظهر ذلك في المقام الأول بالارتباط بين الله والمملكة ومزاوجة ذلك "مملكة الله فيكم وبينكم " والأمر الثاني الكامن في مفهوم الله المعبر عنه أنه "أب لكم". وقد أدى إدخال عقيدة أو مقولة " الكلمة" إلى تعديل الواحدية الذاتية للإله بالمفهوم السامي مما جعل المقولة السامية الأولى هرطقة وهو عائد لتعديل الداخل على الوحدانية الذاتية.
وفي الجزئية الأخيرة من المقال المنشور كان حديث الكاتب يتمحور حول البحث عن الله فنراه يقول بأنّ التصورات المختلفة عن الله كانت نتيجة التعقيد على غرار الديانات الكبرى المعقلنة ثم يردف قائلا إن التصورات الثلاثة المبسطة (للدين وفكرة الله) لا ينبغي أن تفهم باعتبارها متناقضة إذا أخذ أحدهما سقط الآخر. ولعلّ الكاتب هنا قد ناقض نفسه لأنه صرح بأنّ التصور الشرق آسيوي والتصور السامي في تناقض والمحاولة للوصول إلى نقطة وسط بينهما تقود إلى تعقيدات في التفكير.
بعد مطالعة هذه المقالة أجد أنّ طرح الكاتب لقضية الوجود الإلهي كان سطحيا نوعا ما فقد ابتعد الكاتب عن الطرح العميق للقضية واكتفى بعرض التصورات دون أن يعطي مثالا حيا عن الديانات التي تأخذ بتلك التصورات ولم يبد الكاتب رأيه الشخصي من قضية الوجود الإلهي مع أنه تحدث عن الدين حيث قال إنّ إسهام الدين يتمثل في دفعنا للاعتراف أن وجودنا ليس سلسلة من الوقائع العارية والمتتالية.
