مسيرة الديمقراطية وهي تذهب باتجاه آخر!

منال المعمرية

إنّ الثورات الحديثة، الإنجليزية والأمريكية والفرنسية على التوالي، قلصت دور الدين كسلطة، وكان لها بالغ الأثر على أوجه الحياة بمجملها في أوروبا. فقد انتقل الغرب في القرون الأخيرة من وضع كانت فيه السيطرة الشاملة والهيمنة المطلقة واضحة من لدن الشأن الديني بلا منازع إلى وضع صار فيه "رَكن الدين في منزلة ثانوية" أو ما يُعرف بتخصيص الأديان أو تفريدها من عوائد زماننا المعتادة!

يعرّج محمد الشيخ، في مقاله المنشور بمجلة التفاهم، على كتاب "الدين في الديمقراطية"، لمؤلفه المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيهMarcel Gauchet، ويطرح أهم النقاط التي تضمنها الكتاب، ويعلق على بعض الجزئيات المثيرة للجدل في نظره، التي اعتبرها أحكاما مسبقة واستدلالات غير مقنعة. في كتابه، يشرح غوشيه بعض المفاهيم مثل الخروج من الدين والعلمنة والدنونة، ويفك بعض ما اعتراها من ملابسات في ظل التغيرات التي طرأت عليها. فمن وجهة نظر غوشيه، فإنّه يرى أنّ مفهوم الخروج من الدين مثلا، لا يعني الإلحاد وإنما تخصيص الدين وتقليص دوره في تحديد المجتمع وهيكلته، وهو ما أدّى إلى انعكاسات متبادلة على الدين نفسه كما على المؤسسة الدينية والدولة والمجتمع. وهذا المفهوم في نظره لا يناهض الدين من حيث الجوهر وإنّما يعادي المطامح الدنيوية للنخب الدينية، ويحدد للمؤمنين الاحتفاظ بإيمانهم الشخصي "تخصيص الدين"، مع إمكانية دخولهم المجال السياسي المشترك والمستقل عن الدين.  

في المقابل، يرى غوشيه أنّ "الخروج من الدين" لم يتوقف، وإنما يتواصل بشكل مخيف. فالكنيسة الآن معزولة تماما وكليا عن السياسة، فضلا عن العقيدة والدين. واعتبر أن هذا هو مفتاح المشكلة في المجتمعات الحديثة والمعاصرة.

مفارقات

إنّ التراجع الديني يخلخل فكرة السياسة التي قامت وتطوّرت، سابقاً، لمواجهته، ويدعو بشكل ملح إلى إعادة تعريف السياسة والديمقراطية، معاً.

فالضعف الذي اعترى الدين في أوروبا اليوم أدى بشكل غير متوقع إلى ضعف العلمانية ومسار الديمقراطية. إذ يلاحظ المؤلف أنّ ثمة اهتزازا أصاب العلمانية- بفرنسا على الأقل. وأنّ ثمة ضعفا اعتراها؛ لكن لا نقدر على فهم هذا الاهتزاز ما لم نقرنه بضعف العامل الديني الذي يُعدّ بمثابة الخصم. فعلى قدر ضعف الدين يكون تهافت العلمانية أيضا. فلئن كان ثمة نضوب للكنائس وهجرها وغياب شبه تام للإقبال عليها، فلا يقل عنه أهمية نضوب معين العلمانيين المناضلين. فالشعارات التي لطالما تبناها العلمانيون وتعززوا بها سقطت اليوم سقطة مدوية مروعة، فشعارات العلم والعقل والتقدم والأمة والجمهورية والوطنية والروح المدنية والأخلاق، ما تفتأ تتهاوى وتتداعى وتتهافت. وكانت هذه أولى المفارقات التي طرحها غوشيه في كتابه.

وأمّا المفارقة الثانية، فإنه بقدر ما غيرت الدولة من كُنه الدين، غير الدين من كُنهها! يقول محمد الشيخ بأنّه عادة ما توصف علاقة الدولة بالدين على أنّها أحادية؛ أي أنّ الدولة هي الفاعل المُغيّر، والدين مفعول به متغير. لكن غوشيه في طرحه، يصف العلاقة بأنّها تبادلية ثنائية، وأنّها ليست علاقة "تغيير" فحسب، بل و "تغاير"؛ أي أنّ كليهما يغير في الآخر. فبقدر ما غيرت الدولة في الدين، تغيرت به.  إنّ المواطن الفرنسي اليوم يعدّ إقحام فكرة الرب في النظام السياسي مروقا لا مروق بعده، فأصبح الدين هو الديمقراطية، وهو الدين الذي ابتكرته الدولة وعملت على إحلاله، وكان من نتائج ذلك أن أصبح الشأن السياسي ليس حكرا على الدولة وإنما تغير هو أيضا ليشمل المجتمع المدني.

 

ولئن كانت عملية الخروج من الدين قد أدت إلى وجود دين دنيوي بديل من عنديات الدولة، فإنّ هذا الدين قد أظهر فشله بدوره، فلا أدلجة قامت على ديانة سياسية دنيوية قد نجحت، بل كلها انهارت. حيث شهد القرن العشرين أفول الديانات الدنيوية، وهذا ما عمل ويعمل على تحويل الديمقراطيات ذاتها، كما يمنح- في الوقت نفسه- الأديان حق الوجود.

لفهم تقلبات العلاقة بين الدولة والدين، يجب فهم تقلبات العلاقة بين الدولة والمجتمع- وهذه الأخيرة تعد أصل التحول في نظر المؤلف. إنّ المجتمع المدني هو الفاعل الخفي الذي غيّر في كُنه الدين والدولة معا!

 

كيف غير المجتمع من الدين والدولة؟

 

لقد راجع الدين والدولة ادعاءاتهما الشمولية والهيمنية "أيدولوجيتهما التوتاليتارية"، وتنازلا معا عن رغبتهما الدفينة والمعلنة في الاستحواذ على المجتمع. وفي حين انسحبت الكنيسة عن المشهد وتخلت الدولة عن رغبتها في أن تكون عن الدين بديلا، وتنشئ دينا دنيويا عديلا، ظهر التعدد في المعتقد، فكان أن تباينت المعتقدات، وأصبحت الدولة لأسباب وجيهة محايدة من حيث المعتقد مقابل مجتمع مدني صار بدوره، وللأسباب نفسها، قائما على التعدد وحرية المعتقد ومنظمًا نفسه بنفسه. هذه الصورة مثالية أكثر مما ينبغي كما يدعي غوشيه، فهي صورة لا تسمح بإدراك التحولات التي مست صلة الدولة بالمجتمع المدني، وهي الصلة المفتاح عنده لفهم العلاقة بين الدولة والدين في المجتمعات الغربية المعاصرة.

فكما هو معلوم بأنّ التراتبية الكلاسيكية التي اقتضت هيمنة الدين على الدولة ومن ثم هيمنة الدولة على المجتمع تغيّرت وتبدلت، حتى أصبحت الدولة في قمة هذا السلم، وكان ذلك ما تسبب به الانقسام الكبير بين المجتمع والدولة -في رأي غوشيه، وهو السبب الذي تجاهله الكثير من الباحثين، إذ بسبب علاقة المجتمع بالدولة وانقسامه عنها، تحولت الهيمنة من الدين إلى الدولة، ونتج عن هذا التحول تغير في دلالة كل من الدولة والدين، فلم يعد الدين ذلك الكائن الشمولي المهيمن، وعوضا عن ذلك مارست الدولة هذا الدور، مع خصخصة الدين وتفريده، وبالتالي تحول من شأن عام إلى شأن خاص.

إنّ وتيرة الانقسام هذه بين الدولة والمجتمع مستمرة، في نظر غوشيه، وتتغير معها دلالات الدولة نفسها والدين أيضًا. كما يذكر المؤلف أيضا بأنّ هذا الانقسام قد تعرض إلى تسريعين (مرحلتين):

 

المرحلة الأولى: منذ نهاية الحروب الدينية (ق١٦_١٩)، وحتى الثورة الفرنسية، حيث أصبحت الكنيسة داخل حدود الدولة، وليس العكس، بالإضافة إلى أنّه تمت عقلنة النظام الاجتماعي، ووصفها بمرحلة "الاستتباع"، أي أنه قضي بأن تتبع الكنيسة الدولة.

المرحلة الثانية: حيث نشأت الحركة الليبرالية الكبرى للحريات، وتشكلت هيئتان للشأن العام؛ هيئة الدولة وهيئة المجتمع المدني، ووصفها بمرحلة "الفصل"، أي أنّه تم الفصل بين الدولة والمجتمع وذلك في سبيل تمكين الحريات.

وكان ذلك قد شكل بعض المخاوف والتوجسات لدى الدولة، فمن جهة أصبحت الدولة تخاف من الكنيسة المسلحة، ومن الهويات التي أخذت تعبر عن نفسها. وما عادت قادرة على ادعاء الشمولية، فهي ليست إلا أداة لخدمة المجتمع، كما عجزت عن تحديد غايات عليا يسير عليها المجتمع. ومن جهة أخرى ضعف الأمر الديني، وتغير كنه الدين وماهيته، فأصبح فرديا بعد أن كان جماعيا. وأصبح طلبا بعد أن كان عرضا، واستكشافا بعد أن كان تلقيا، وطلبا للمعنى بعد أن كان طلبا للحق.

لكن هذا المجتمع التعددي الهوياتي المدافع عن الأقليات اليوم، لم يعد مأخوذا بالديمقراطية التي تحددت مسبقا، بل أصبح يبحث عن دليل آخر، ويغير من الديمقراطية نفسها، ويغير من اتجاهها، كما يعيد تشكيلها وتعريفها، ويعيد، على وجه الخصوص، تحديد العلاقة بينها وبين الدين وبينها وبين العلمانية.

 

 

 

 

أخبار ذات صلة