حنة أرنت: التقليد ليس عدوّا ولا صديقا

 فاطمة بنت ناصر

نتناول مقالة الكاتب عبدالله السيد ولد أباه المنشورة بمجلة التفاهم بعنوان (التقليد والمجال العام في فكر حنة أرنت). ما جعل الكاتب يلتفت لفكر حنة أرنت حول موضوع التقليد بشكل خاص هو ماتفردت به حنة عن الكثيرين من رواد التنوير كنيتشه وماركس وكيكغارد الذين يَرَوْن أهمية القطيعة مع التقليد لتحقيق الحرية والحفاظ على مقوماتها من ديموقراطية وقبول للتعددية وصون حقوق الإنسان. يرى هؤلاء أن العقل وحده بإمكانه تحقيق كل ذلك دون الحاجة إلى التقليد الذي يرون فيه عائقًا كبيراً. ولكن حنة أرنت لم ترَ في التقليد عدواً ولا صديقاً كما سنرى في قادم المقال.

يبدأ المقال بنقاش ظاهرتين تشكلان عصرنا الحديث اليوم وهما:

أولاً: الكليانية totalitarianism (وهي ذاتها المعروفة بالشمولية وشخصياً أفضلها على كلمة الكليانية)

ثانياً: ضياع العالم[1]acosmism

الكليانية أو الشمولية عند حنة أرنت:

عند الحديث عن الشمولية، يتبادر في الذهن مفاهيم من قبيل: الاستبداد السياسي والتسلط الدكتاتوري وهذا هو المعروف عنها، إلا أنَّ حنة أرنت لديها مفهوم مختلف عمَّا هو سائد فهي تقول إنه نموذج جديد للحكم ظهر في القرن العشرين ولَم يكن معروفاً قبله وكان ظهوره الحدث الأبرز في العصور الحديثة. تتناول أرنت الأنظمة الأكثر بروزاً وتأثيراً من بين الأنظمة الشمولية وهي : النازية والستالينية والإمبريالية. وتجد أرنت أن هناك سمة مشتركة تجمع هذه الأنظمة الثلاثة، وهذه السمة هي: الانعزال isolation والوحدة[2] loneliness . وتعني بها حالة الانعزال عن كيان الجماعي في العالم والعيش في حالة اغتراب كامل عن الآخر حيث تترسخ فكرة أنَّ البشر شيء فائض وزائد. والانعزال ليس كالاعتزال كما نعلم، فهو خيار حر ليس الغرض منه الانقطاع عن العالم وإنما التوحد مع النفس والعيش في حالة اغتراب حتى عن الذات التي تفقد خصوصيتها وحميميتها. فالانعزال الذي تفرضه هذه الأنظمة الشمولية يستهدف مجال الإنسان الحيوي والحميمي ليحيل الفرد فيها إلى إنسان عديم الفائدة والقيمة superflous. كل هذا ينشأ في مفارقة عظيمة فالشعوب تتبع هذه الأنظمة دون إكراه سائرةً مع الجموع المسلوبة الإرادة. هذه الجموع لا تجمعها أية مصالح مشتركة أو إطار طبقي هي مجرد عجينة تشكلها الأنظمة كما تشاء بالدعاية propaganda والرعب terror. وبعد ذلك تتمكن الأنظمة من فرض سيطرتها المطلقة وتتخلى عن استخدام الدعاية والعنف فلم يعد هناك حاجة لهما، فالمجتمع انتقل لحالة القولبة الفكرية والقسرية indoctrination. فالشمولية لا تحتاج إلى استخدام الإقناع هي بحاجة إلى حشود تابعة لها تشكل سُوَر حماية للمجتمع يفصله عن الآخر الذي لا ينتمي إليه. حسناً قد يقول قائل أن الأنظمة الشمولية في أوروبا - على الأقل - لم يعد لها وجود، ولكن حنة تقول إن حالة الاغتراب والانعزال عن العالم موجودة في الإنسان الحديث المشغول بالركض في آلة الشغل.

 

ضياع العالم - إنكار العالم acosmism :

 نعني بضياع العالم: إنكار حقيقة الكون باعتبار أن الله هو مركز الكون وماعداه من مخلوقات وأجرام فانية لا تملك أي وجود مستقل (نقلاً عن الموسوعة البريطانية). وترى أرنت أن هذا الأمر يتجلى في ثلاثة مستويات رئيسية:

١- هيمنة الشغل: وفي هذا ترى أرنت أن العصر الحديث الذي يستند فيه الإنسان على الشغل الذي يأخذ معظم وقته والذي تسبب في حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان الحديث بسبب تعطيل (التأمل) الذي قل ويكاد ينعدم. وتعارض أرنت ماركس وتنفي أن يكون الشغل هو المؤسس للوجود الإنساني المشترك، بل هو كما تراه من أدنى وأحط المستويات التي تبعد الإنسان عن الفعل الأصيل.

٢- انحسار المجال العمومي - أو المجال العام: وكما هو معلوم فإنَّ هذا المجال هو الذي يمارس فيه الفعل السياسي وانحسار هذا المجال يعود للحداثة التي أغلقت القسمة المعروفة بين البعد العام والخاص. أما في السابق ولدى اليونان تحديداً كان هناك فصل واضح بين الحياة الخاصة التي يعيشها الفرد في أسرته وحياة المشاركة العامة مع المجتمع. حيث كان نظام الأسرة قائمًا على السمع والطاعة بينما الحياة العامة قائمة على الإقناع والمشاركة. أما اليوم فتداخلت حياة العام بالخاص وتشكل مجالٌ جديد نطلق عليه اليوم مسمى (الاجتماعي أو كما يطلق عليه الكسالى سوشال) الذي حلَّ محل المجال العام السياسي. ونرى كيف أصبحت الأمور الفردية هموماً مجتمعية فنرى المطالبة بالمساواة وقبول الاختلاف باعتبار أن المجتمع كله أصبح عائلة واحدة كبيرة ولتستمر يتوجب قبول اختلاف وتعددية أفراده.

٣- اعتبار الفلسفة السياسية تاريخاً لنسيان (الفعل): في هذا ترى أرنت أن نسيان الفعل السياسي في الحداثة مرتبط بالفلسفة الأفلاطونية التي كانت ترى في الحوار العام مجرد حوارات بعيدة عن الحقيقة ولا طائل منها، ثم جاء فلاسفة الحداثة وزادوا من نسيان الفعل السياسي للمجال العام فهم يعتقدون أيضاً أن العامة عاجزون عن وضع قواعد تعايشهم المشترك ومن يستطيع التنظير لهذه القواعد هم الفلاسفة. أما الإفراز المختلف للحداثة فهو أنها أوجدت فلاسفة ينادون بالقطيعة مع التقليد مثل (ماركس وكيكغارد ونيتشه) رغم كونهم يستخدمون التقليد في تناول مستجدات الحداثة. أما أرنت فترى أن السياسة مقومها الجوهري هو التنوع وهذا التنوع يستوجب إعادة الفصل بين مجال المواطنة ومجال الحياة الاجتماعية ودون ذلك لا يمكن إيجاد مجتمع سياسي. وتنتقد أرنت الفلسفة السياسية الغربية لإخفائها لهذا التنوع والتمييز الذي يقوم عليه المجتمع. وترى أن هناك سببين لهذا التمويه:

١- إلصاق تعريف الإنسان بالسياسة بقولهم إنه حيوان سياسي وكأن السياسة جزء من تكوينه وخلقته. والواقع أن السياسة لا تنشأ إلا بوجود فضاء تترابط فيه العلاقات بين البشر.

٢- تكريس الدين لفكرة أن الله خلق الإنسان على صورته. وهذا التكريس فيه إقصاء للتنوع والاختلاف. فالدين هنا يقول إن البشر وإن اختلفوا في سمات سطحية إلا أنهم نسخ مكررة من بعضهم. وقد حاول الغرب الخروج من النظرة الدينية واللجوء إلى التاريخ، واستبدلت مقولة خلقهم الله على صورته بمقولة إن هناك فردا واحدا يدعى (الإنسانية) يعود إليها الجميع ويشتركون فيها ويتشابهون.

 

التقليد ليس بعدو ولا صديق:

ولعل نظرة أرنت للتقليد وعلاقته هي أبرز ما يميزها في وجه نظري؛ فهي لا تحن إليه ولكنها تراه كمنبع أصلي لا يمكن التنكر له ولكن التمعن فيه بلذة لما به من خيوط إنسانية ضاربة في القدم تجمعنا به. ولعل سبب اتزان نظرتها للتقليد أنها لا تراه كما يراه الأعداء الشرسون له بوصفه مرادفاً للماضي، بل بكونه منبعا لمعنى الوجود الإنساني وله قدرة على التجدد وهذا هو مضمون الحرية.

 

 

 

 


[1] بالرجوع إلى معنى الكلمة الإنجليزية فهي تعني: إنكار حقيقة الكون باعتبار أن الله هو مركز الكون وماعداه من مخلوقات وأجرام فانية لا تملك أي وجود مستقل ( نقلاً عن الموسوعة البريطانية )

https://www.britannica.com/topic/acosmism

و يصفها الكاتب في مقاله بضياع العالم. وأفضل عليها مصطلح إنكار العالم أو إنكار حقيقة الكون.

[2] في مقال المؤلف يطلق الكاتب مسمى الأسى على loneliness و أرى أن كلمة الوحدة هي الأنسب في هذا السياق.

أخبار ذات صلة