أم كلثوم محمد الفارسي
لقد شهد دور المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي موجات من المد والجزر، على طول تاريخها، وخاصة في عصرنا الحديث، هذا العصر الذي ثار الحديث فيه عن أزمة المؤسسة الدينية وعن إشكالات دورها ومهماتها، وعن التحديات الجديدة، وبخاصة الدينية، تجاهها والتي لا تبدأ من الحركات الدينية الصاعدة منذ عشرينيات القرن العشرين، كما لا تنتهي بالفضائيات الدينية والزخم الديني والدعوى على شبكة الإنترنت، وهو ما يراه الكثيرون سحباً للبساط من تحت أقدامها، وعلى صعيد هذه الأفكار يوضح لنا الباحث مسفر بن علي القحطاني في مقاله المؤسسات الدينية الإسلامية والزمن الإصلاحي.. التجديد والطهورية حاجة المؤسسات الدينية القضائية أو الاجتهادية إلى مشاريع تجديد واستقلال تحميها من خطر الانحراف عن مقاصدها، أو الذوبان في أوعية السياسة، أو الجمود عن مواكبة العصر ومستجداته المتلاحقة، فالفقه المعاصر اليوم يعيش حالة مختلفة عن عصور الفقه السابقة، والفقيه اليوم لو قام بحفظ متون الفقه وشروحها فلن يجد في غير كتاب العبادات إلا القليل الذي ينطبق على عصره، فلغة الفقه التراثي وواقعه الذي صنّف فيه يكاد يغاير في شكله ومضمونه عالمنا المعاصر، فالمساكن والمراكب، والعلاقات والمعاش وطبيعة الاحتياجات وطرائق الكسب، ومجالات التعلم والعمل، والدولة والمجتمع، والحرب والسلم، كل ذلك اختلف عن حاله قبل قرنين أو ثلاثة، يعني هذا أننا في عصرنا الحاضر مطالبون بما كان الأوائل مطالبون به من صياغة فقهية تتوافق مع طبيعة الواقع، وتتلاءم مع احتياجات المجتمع، دون أن نخترع دينا جديدا أو نضلل من سبق، فالنصوص لا تزال حاكمة في مقاصدها الكلية وعللها الجزئية على ما يستجد وينزل؛ ولكن وفق معايير التأويل الأصولي وليس التجهيل العلماني المجتث لقواعد اللسان العربي في الفهم ومراتب الحجج في الدلالة على الحكم.
ومما يُثير الربكة والقلق أنَّ الفقه أصبح قليل النفع في حل مشكلات عالم اليوم في مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها، وأصبح القانون البشري المستورد هو الحل السحري لاحتياجاتنا التشريعية، ومع ما يسعى لتحقيقه بعض الفقهاء اليوم من علاجات خاصة لبعض النوازل؛ فإن العجز يبقى واضحًا في مجالات الدولة وطبيعة الحكم وتداول السلطة وأنواعها، كما أنه تقاصر عن حلول الاقتصاد إلى ترقيع بعض الصور الممنوعة المقلّدة وإلحاقها بتعسف بأحكام الشريعة؛ أما مسائل الفن والإعلام الجديد والسياحة والترفيه فلا تزال في بداياتها حتى اليوم.
هذا كله يجعل دور الفقيه المعاصر أمام عدة تحديات معرفية وواقعية، لذلك ينبغي تطوير الفقه من خلال تطوير مؤسساته وتحديث منهجيات النظر بمعايير علمية وواقعية جديدة، وهذا ما يجب أن ينصبّ عليه الاهتمام، كما أن استقلال الفقيه من أي تبعية سلطوية - تمارس عليه ضغوطا ليتماهى مع ظرف سياسي أو معاشي؛ يعدّ من أهم التحديات في نجاح الفقيه في أداء رسالته وقبوله في الناس.
وإذا ركزنا الحديث على واقعنا المعاصر فإن الحالة التصالحية تغلب الحالة التصادمية بين سلطة الحاكم وسلطة الفقيه؛ فهناك نسبة توافق الفقهاء مع سلطة الحاكم تكاد تكون هي الغالبة في المشهد الفقهي والسياسي، وقد علق الباحث على ذلك بمسألتين على النحو التالي:
أوَّلا: تحولت في كثير من المجتمعات الإسلامية سلطة الفقهاء إلى ديوان مخملي في البلاط الحاكم باسم فقهاء السلطة، الخاضعين لأهواء الدولة بالترغيب أو بالترهيب أحيانا، ما جعل هذا الخضوع سبباً لكثير من الظلم والاستبداد والفساد مارسته السلطة دون خوف من الرقابة الدينية التي أصبحت جزءًا من المنظومة الحاكمة، وأصبحت حتى المخالفات الدينية الصريحة مبررة بالطاعة العمياء والتسليم السلبي لأهواء السياسة، وعلى العكس من ذلك التطرف، هناك من نازع السلطان في ثوب حُكمه، وتطفّل على مهامه، وطلب خصومته من غير مبرر شرعي يقتضي هذا الخصام الخطير، وحشد بالتالي كل النصوص وأقوال السلف التي تبرر له الخروج عن الطاعة وإحداث المواجهة، من خلال تأويل يُخالف مقاصد الشرع الكلية ومصالحه القطعية، وتوظيف للأحداث التاريخية التي مرّت في عهد ثورات الطالبيين وبعض التابعين، وبذا تحتاج المجتمعات الإسلامية اليوم دورا معتدلا وسطيا للفقهاء، يعززون فيه سلطتهم الدينية بالتكامل الإيجابي مع الدولة نصحا وإرشادا، والمحافظة على سيرها دون جنوح وانحراف، ثم التعالي على إغراءات المال والمناصب مع عدم التعالي عن حاجات الناس ومطالبهم المعاشية، وهذا الأنموذج الصالح هو الصمام الوقائي من انفلات السلطة عن عقال الرشد، أو انفلات المجتمع نحو التمرد والغضب.
ثانيًا: أن أساس سلطة الفقيه أو العالم الديني ليس في منصبه الحكومي أو نفوذه الجماهيري، بل تكمن سلطته في قوته العلمية وسيرته الذاتية ومدى تحقق العدالة والحيادية في حياته، مع البرهان المعرفي والحجج العقلية التي تمنح له القبول والانتشار في المجتمع، وهذه قبل أن تنتج سلطة مطاعة لهذا العالم أو الفقيه هي تحمّله مسؤولية النصح لله والتواضع للخلق. وعلى هذا الأساس خفتت تلك السلطة من الظهور في المجتمعات المعاصرة إلا في حالات محدودة، ما يجعل بروز هذا الأنموذج الفريد يتطلب وجود محاضن تربوية وتعليمية تضمن التأهل العلمي والتزكية النفسية لتعيد للمجتمع توازنه التكويني بوجود العلماء الناصحين المصلحين.
من المحزن حقاً أن يصبح الفقه أداة طيعة للاستبداد ووسيلة قريبة للتوظيف الديني لضرب الخصوم، وبأيد متوضئة ينطقون بالآيات والأحاديث، ويغارون على حياض الدين من الانتهاك؛ لكنهم أصبحوا سلاحا فتّاكا يخوض به المستبدون معركة غير مقدسة، فكم من الفتاوى سطرها التاريخ استبيحت بسببها دماء علماء، وقُتل بسببها أبرياء، وتشوه بها الحق وتلبَّس به الباطل، ولا يزال هذا المسلسل يعيد نفسه في عصور التخلف والتبعية للأهواء والطغيان؛ ما يجعل فقهنا السامي في أصعب لحظاته وأضعف حلقاته في تاريخ الأمة، بالرغم من كثرة كليات الشريعة وآلاف الخريجين ومثلها آلاف الأطروحات العلمية التي يشتغل عليها باحثون ويعكفون لسنوات طويلة لمنجز معرفي ينالون عليه أوسمة الترقي الأكاديمي؛ فإنها ما عالجت أزماتنا المعرفية، وتداخل المفاهيم وغياب المعايير والتلاعب القيمي بمبادئنا العامة.
