كاملة العبري
عند الحديث حول التجربة الدستورية في العالم العربي فإنه دائمًا ما يذكر الدستور العثماني الذي صدر عام 1876م، والذي شارك فيه العرب من المناطق الخاضعة للهيمنة العثمانية، رغم أنه يوجد تجربة دستورية عربية سبقت الدستور العثماني بخمسة عشر عامًا ألا وهي الدستور التونسي الذي أعلن عنه عام 1861م، وهو ما يناقشه محمد الحداد في مقاله "فكرة الدستور والدولة الدستورية في الزمن العربي الحديث " والذي يستعرض فيه تاريخ صدور الدستور والعقبات التي واجهها.
ما هو الدستور ؟
الدستور هو "القانون الأعلى الذي يُحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيط أم مركب) ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية) وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة" .
ويوجد هناك دساتير عُرفية إذا كان المجتمع اتفق على سياسات وقواعد مشتركة كبريطانيا مثلاً، وتوجد دساتير مكتوبة وهذا ما يوجد لدى أغلب دول العالم، وتنقسم الدساتير المكتوبة إلى قسمين: دساتير مختصرة تقتصر على المبادئ العامة، ودساتير مطولة تتضمن مجموعة أكبر من المبادئ والتنظيمات.
وللدساتير تاريخ طويل فقد عرفها الإغريق والرومان، كما أعلنت إنجلترا سنة 1215 الماغنا كارتا "الميثاق الأكبر"، ثم عرفت بعدها سنة 1689م وثيقة "قاعدة الحقوق"، وعرفت أمريكا بعد تخلصها من التبعية البريطانية الدستور وأعلنته عام 1786، أما في فرنسا فقد كان للثورة الفرنسية التي أطاحت بالحكم الملكي دور كبير في إعلان الدستور، حيث أعلن الثوار وثيقة "حقوق الإنسان والمواطنة" في 1789، ثم صاغوا بعدها العديد من المشاريع الدستورية، وانتشرت فكرة الدستور بعدها إلى العديد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية.
وقد حاول المفكرون والإصلاحيون في العالم العربي والإسلامي في القرن الثامن عشر الأخذ بفكرة الدستور وطرحها في المشهد لإصلاح أنظمة الحكم كونه لم يكن هناك ما يُحدد للملك صلاحياته ويُقيدها ويعطي الناس فرصة أكبر للمشاركة في شؤون الدولة.
وقد كانت محاولة رفاعة الطهطاوي هي الأولى في هذا المجال، في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" حيث قام فيه بتعريب الدستور الفرنسي، ثم جاء بعدها كتاب " أقوم المسالك" عام 1867 لخير الدين التونسي الذي تحدث فيه عن تجربة بلاده تونس وكان هو من المشاركين في هذا الحدث، ولم يستخدم خير الدين التونسي كلمة دستور بل "تنظيمات" كونها الكلمة المستخدمة في عاصمة الخلافة بما يضفي عليها شرعية دينية، وهذا يدل على الاحتياطات التي يأخذ بها المفكرون والمصلحون عند طرح موضوع الدستور كونه كان موضوعا جديدا على عامة الناس.
يقول "خير الدين التونسي" إن الأمر إذا كان صادرا من غيرنا وكان صواباً موافقًا للأدلة، لاسيما إذا كنا عليه وأخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله، وكل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالاً في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداء فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدنيوية، كما تفعله الأمة الإفرنجية".
ومن الكتب المهمة أيضًا والتي تعرضت لموضوع الدستور كتاب أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) " إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان "الذي يبدأ فيه بتقرير المبدأ التقليدي الذي اتفق عليه أغلب المسلمين وهو ضرورة إقامة الملك وأنه واجب شرعي يصنف ضمن فروض الكفاية، واستمد أحمد بن أبي الضياف بعض أفكاره في هذا الكتاب من ابن خلدون في فكرتين: الأولى تأسيس مبدأ الحكم على مدنية الإنسان واعتبار الحكم ضرورة لأن" الإنسان مدني بالطبع أي مجبول على طبع يقتضي الاجتماع"، والثانية هي الإقرار بأن نموذج الخلافة هو نموذج تاريخي قد انتهى ولايمكن إقامته من جديد، وأنه لم يبق للمسلمين إلا الملك، يقول أحمد بن أبي الضياف" وهذا الوازع إما خلافة عن صاحب الشرع، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، لأن الخلق ليس المقصود منهم دنياهم فقط، وإنما المقصود منهم دينهم المفضي إلى السعادة في آخرتهم..."
رغم أن تونس كانت ولاية عثمانية لكنها دائماً ما كانت تسلك طريقاً مختلفاً عن الدولة العثمانية حتى فيما يتعلق بموضوع الدستور، عندما أصدرت الدولة العثمانية "التنظيمات" الخاصة بها أرسلت وفدا إلى تونس وحاكمها "أحمد باي" ليعلنها في تونس، لكن أحمد باي رفض ذلك فقد أراد أن تكون بلاده مستقلة في سياساتها وتتبع الدولة العثمانية بشكل رمزي فقط، فاختار اللغة العربية لغة الدولة وليس العثمانية وأقام علاقات مع دول أوروبية وتهرب من دفع الإتاوات السنوية للأستانة، لقد أراد أحمد باي القيام بالإصلاحات باسمه واسم عائلته وليس باسم الخلافة العثمانية، ففي عام 1846 قام بإلغاء العبودية، ثم جاء بعده محمد باي وأرسلت إليه الدولة العثمانية وفدا يعرض عليه التنظيمات "خط هايمون" ورفضه كما فعل سلفه، وأعلن وثيقة خاصة بتونس عرفت بعهد الأمان والتي مهدت للدستور التونسي فيما بعد.
وقد سمي بعهد الأمان لأنَّ الفصل الأول منه يعلن على لسان الباي "تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة". وقد ألغى هذا العهد مصطلح "أهل الذمة" وأعلن المساواة بين المواطنين.
ولم يكن الباي ملتزمًا في البداية بعهد الأمان فقد كان بالنسبة له وسيلة للتخلص من ضغط العثمانيين والدول الأوروبية، ولكن تواصل ضغوطات القناصل أجبره على البدء بتفعيل عهد الأمان وتحويله إلى وثيقة دستورية، فكوَّن لجنة من كبار رجال الشرع وأعيان الدولة للإشراف على إصدار النصوص القانونية الجديدة المقتبسة من عهد الأمان، يقول الحداد إن ما عرقل مسار إصدار الدستور أمران، الأول: نأي علماء الشرع عن هذه المهمة، والأمر الثاني هو عقلية التملق التي كانت راسخة في عقول بعض الأعيان، حيث نجد في تاريخ "الإتحاف" العديد من المواقف منها "ولما أتممنا شرح القاعدة الأولى وهي قاعدة كل القواعد، وقرأناها على الباي في ذلك المجلس، بدرت من بعضهم بادرة يغفر الله لهم فيها، وهي أن قال:أي شيء بقي لسيدنا، ووافقه في ذلك بعض المتزلفين، والباي ساكت..."
وبعد موت محمد باي خلفه صادق باي الذي تابع نهج سابقيه، وطلب من كبار رجال الدولة والأعيان الإشراف على صياغة الدستور، وتم ختم صياغته عام 1860 ودخل حيز التنفيذ في 26 أبريل 1861.
مما يُميز مقال محمد الحداد هو موضوعيته واسترساله في الطرح التاريخي للدستور في تونس وأهم العقبات التي واجهها صدور هذا الدستور.
