كاملة العبرية
يمثل المجتمع المدني اليوم الوسيط بين الدولة والمجتمع، والكابح لجماح الدولة والذي يمنعها من تجاوز سلطتها. ياسر قنصوه يناقش في مقاله "الدولة والمجتمع المدني في الفكر الأوروبي الحديث" تعريف المجتمع المدني والفرق بين الدولة والحكومة، ويعرض آراء المفكرين والفلاسفة في المجتمع المدني وآراءهم المؤثرة في هذا المجال.
التعريف
دائمًا ما يحدث لبس لدى الناس بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة، يوضح قنصوه الفرق بينهما: فمفهوم الحكومة أقدم بكثير من مفهوم الدولة، ويعني مصطلح الحكومة منذ العصور الوسطى: الحكم، بينما مفهوم الدولة دخل إلى اللغة الإنجليزيّة من الفرنسية مع بداية القرن السادس عشر. ويرتبط اسم الدولة بالسيادة، فمنذ نهاية القرون الوسطى ظهرت الأراضي الواسعة التي تتبع سيادة واحدة فأصبح مفهوم السيادة ملازما للدولة.
إذا ما هو تعريف المجتمع المدني؟
المجتمع المدني هو "مصطلح تمّ استعماله لوصف التجمّعات أو الكيانات المنظمة التي تشغل مركزًا وسيطا بين الدولة والعائلة "وبحسب قنصوه يصبح لدينا هنا: الدولة، والمجتمع المدني (المستقل)، والفرد/ العائلة. ويهتم المجتمع المدني بمشاكل المجتمع وقضاياه ويدافع عن حقوق المواطنة، لذا فهو "يمثل المراقب لممارسات الدولة تجاه الحريات المدنية" كما بين قنصوه في هذا المقال طبيعة المجتمع المدني وهي:
- حيز مستقل في مقابل الدولة.
- إطار أخلاقي تتشكل بداخله معايير السلوك العامة التي تدعم القيم المدنية وتوفر حياة إنسانية لائقة.
المحاولات التأسيسية المُبكرة
يبدأ قنصوه هنا بعرض آراء الفلاسفة في المجتمع المدني قدم أفلاطون (428-348) كتابه "الجمهورية" ليناقش المشكلات التي يتعرض لها المجتمع الأثيني، لم يهتم أفلاطون بفكرة المجتمع المدني لعدة أسباب منها أن فكرة المجتمع المدني تسلب من الدولة سلطتها المركزية في ترتيب المجتمع والأفراد وفق الترتيب الهرمي أو الطبقي، كما أنّ حق الحرية الذي منحه أفلاطون لمجموعة الفلاسفة والذي من بينهم "الملك الفيلسوف" يتناقض مع فكرة المجتمع المدني لأنه يوجد نموذج "نخبة" تفرض قيمها مما يجعلها معرضة للصراع مع المجتمع. وكانت نظرة أفلاطون اتجاه الديموقراطية الأثينية سلبية حيث إنّها بنظره تنشر المساواة بين المتساوين وغير المتساوين.
قابل كتاب الجمهوريّة لأفلاطون كتاب "السياسية" لأرسطو حيث يقدم فيه أرسطو صورة "الجماعة السياسية" ويطرح فكرة "التشاور العام" الذي يمكّن من حريّة الحراك الاجتماعي، وبينما لم يكن أفلاطون معجبا بفكرة المساواة فإنّ أرسطو يرى الحرية داعمة للمساواة، أوجد أرسطو مصطلح اتحاد أو رابطة المواطنين والذي يعني مجموعة من المواطنين تترابط لأجل هدف خيري، ومع انتهاء الامبراطورية الرومانية وبداية العهد المسيحي تم وضع حد نهائي للمحاولة التأسيسية لمصطلح المجتمع المدني (لم يوضح قنصوه لماذا حدث ذلك).
الدولة الحديثة والمجتمع المدني
ملامح جديدة للعلاقة
لم يهتم مكيافيلي (1469-1526) بمفهوم المجتمع المدني والحرية التي كانت بنظره تؤدي إلى صدام مع السلطة لاسيما أنّ الحريات الفردية بدأت تشق طريقها في المجتمعات الأوروبية في بداية ظهور الحكم المطلق الذي يمثل الحد الفاصل بين ما هو موروث وما هو حديث، يجسد الفيلسوف توماس هونز (1588-1679) هذا الحد الفاصل، الذي وضع إطارا جديدا للعلاقة بين المواطن والدولة، فبنظر هونز الوصول إلى الحريات يتطلب خوض صراع وهذا الصراع سيؤدي في نهاية الأمر إلى وضع قوانين تشكل في النهاية نواة المجتمع المدني. جاء بعد ذلك جون لوك (1632-1704) الذي كان مهتما بحماية الحريات الفردية وتحجيم سلطة الدولة. تقوم فكرة المجتمع المدني لدى لوك على أن المجتمع المدني هو تطور لحالة طبيعية وأنّ السلام والحرية اللذين تتمتع بهما تظل باقية مع وجود مجتمعات مدنية مستقلة، وذلك بسبب العقد الذي يتفق عليه الناس ويجعلهم يدخلون في مجموعة واحدة. وتقوم مهمة الحكومة هنا على حفظ ممتلكات الناس وسن القوانين والتشريعات.
مع بداية ظهور الرأسمالية التي رافقت الثورة الصناعية، حاول آدم سميث (1738-1790) المطابقة بين اقتصاد السوق والمجتمع المدني، وحاول التوفيق بين الفرد والمصلحة العامة في كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية" حيث يقول إنّ على الدولة حماية المصلحة الفردية التي تعد في النهاية مدخلا للمصلحة العامة التي ستفرض نفسها من خلال آلية السوق، يقول المفكر ديفيد ريكاردو عن نظرية آدم سميث: "إنّ السعي وراء الميزة الفردية يرتبط بشكل يدعو إلى الإعجاب مع الخير العام للكافة"، تنطلق فكرة آدم سميث عن المجتمع المدني من منطلقات اقتصادية من خلال وضع الشروط الملائمة للأنشطة الاقتصادية، وعدم تدخل الدولة في أنشطة الأفراد. أتى بعد ذلك مونتسكيو (1689-1755) الذي قام بتحديد المجتمع المدني كوسيط بين المواطنين والدولة، حيث وضع خطًا فاصلا بين سلطة الحكم المتمثلة بالدولة والمجتمع بصورته المدنية في كتابه" روح القوانين".
قدّم جان جاك روسو قراءة نقدية للفلاسفة والمفكرين الذين سبقوه، وقام في كتابه "في العقد الاجتماعي" بطرح سؤال: "كيف من الممكن إيجاد شكل من الرابطة الاجتماعية التي بوسعها أن تدافع عن كل القوى المشتركة فيها سواء أكانت شخصا أم مصالح لكل طرف في هذه الرابطة الجماعية، بينما يبقى كل شخص على الرغم من ارتباطه الذاتي لا يطيع سوى ذاته ويظل حرا كما كان من قبل"
التصور الليبرالي المعاصر
يقول قنصوه إنّ المجتمعات التي تتبنى الليبرالية تعتبر المجتمع المدني فيها ذا حيز مستقل ويقوم على احترام التعددية واحترام الاختلاف في الآراء والتسامح من خلال أن يحيا الفرد وفقا لخياراته الحياتية ويحيا الآخرون بنفس الطريقة أيضا. ترسّخت قيمة التسامح في المجتمعات الأوروبية منذ أن كتب لوك كتابه "رسالة في التسامح" والذي يدعو إلى احترام معتقدات الآخرين والسماح لهم بإقامة شعائرهم الدينية.
كتب قنصوه المقال هذا بصورة منظمة حيث بدأ بالتعريف والتفريق بين مصطلح الدولة والحكومة لتوضيح اللبس وتعريف المجتمع المدني، ثم طرح مختلف آراء الفلاسفة وبالترتيب الزمني موضحا التدريج الذي اتبعه في فكرة المجتمع المدني حتى تظهر بصورتها الحالية.
