كاملة العبري
في البداية وقبل كل شيء علينا أن نعرف متى بدأت الحداثة تحديدًا وأين؟
"بعض المفكرين يؤرخون بداية الحداثة عام 1436، مع اختراع غوتنبيرغ للطابعة المتحركة. والبعض الآخر يرى أنّها تبدأ في العام 1520 مع الثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة. ومجموعة أخرى تتقدم بها إلى العام 1648 مع نهاية حرب الثلاثين عامًا، ومجموعة خامسة تربط بينها وبين الثورة الفرنسية عام 1789 أو الثورة الأمريكية عام 1776، وقلة من المفكرين يظنون أنّها لم تبدأ حتى عام 1895 مع كتاب فرويد "تفسير الأحلام". وبدأت حركة الحداثة (modernism) في الفنون والآداب".
باختصار فإنّ الحداثة رافقتها تغييرات علمية وفكرية وثقافية وتغييرات على الصعيد السياسي والاقتصادي أيضا، كما أنّها بدأت من العالم الغربي.
في مقاله المعنون بـ "الأسس المنهجية للقراءة القرآنية المعاصرة"، يتطرق فؤاد بوعلي لأهم القراءات المعاصرة (الحداثية) للنص القرآني: الأدبية، التأويلية، الأيديولوجية، المعرفية وأهم رواد هذه القراءات.
كان القرآن كما يشير بوعلي نقطة البداية واهتمام الحداثيين والمفكرين العرب، فالمسلمون يستمدون تشريعاتهم وقوانينهم وطرق تفكيرهم من القرآن، لذا تناول الباحثون النص القرآني بالبحث والدراسة محاولين الوصول لفهم جديد للقرآن يختلف عمّا جاء به المفسرون القدماء.
كما أنّ رغبة الحداثيين العرب بقراءة معاصرة للقرآن الكريم ينبع من محاولة هدم احتكار تأويل القرآن لفئة ما دون غيرها وتأويل النص القرآني بما يناسب واقع الإنسان العربي اليوم وهنا لم يخطئ بوعلي، فوجود قراءات متعددة لقرآن سيشيع جوًا من التسامح مع الآراء كما أنّه سيغني الفكر العربي.
سنبدأ بمراجعة كل نوع من أنواع القراءة الحداثية للقرآن:
أولا: القراءة الأدبية
ينطلق مناصرو هذا الاتجاه من أنّ القرآن نزل على أمة تهتم بالشعر والبيان ومن هذا المنطلق، فإنّه يجب تفسير القرآن تفسيرًا أدبيًا. ومن أهم رواد هذا الاتجاه الشيخ أمين الخولي وهو مؤسس التفسير الأدبي للقرآن، حيث يقول إنّ القرآن هو "كتاب العربية الأكبر وأثرها الأدبي الأعظم، فهو الكتاب الذي أخذ العربية وحمى كيانها وخلد معها فصار فجرها وزينة تراثها، تلك صفة للقرآن يعرفها العربي مهما اختلف به الدين أو افترق به الهوى ما دام شاعرًا بعربيته مدركًا أنّ العروبة أصله في الناس وجنسه بين الأجناس" مما يعني أنّ الخولي يشير إلى القيمة الأدبية للقرآن بالنسبة للعربي مهما كان دينه. كما كان الشيخ أمين الخولي من منتقدي التفسير العلمي للقرآن وضد إقحام العلوم في القرآن الكريم. بعد ذلك يقول بوعلي "حيث يقترح علينا الشيخ المعزول من التدريس منهجًا فنيًا في قراءة النص تعتمد المقاربة البيانية لأحداث القرآن... " ولا أعلم ما الغرض من الإشارة للشيخ أمين الخولي بـ"الشيخ المعزول من التدريس"!
ومن رواد هذا الاتجاه أيضا أدونيس، حيث يقول: "أشير ولا أتكلم عن الكتابة القرآنية بوصفها نصًا لغويًا خارج كل بعد ديني، نظرًا وممارسة، نصًا نقرؤه كما نقرأ نصا أدبيا" وهنا ينتقد بوعلي هذا الاتجاه الذي يتجاهل مقومات القرآن الروحية وخصوصيته الوجودية.
ثانيا: القراءة الأيديولوجية
وهذا الاتجاه يعني توظيف النصوص القرآنية حسب حاجات الأمة، فمثلا "يؤكد حسن حنفي على الطابع الثوري للوحي الذي لا يراه نزولا من الله إلى الإنسان بل هو ينطلق من الإنسان لتلبية نداء الواقع والتعبير عن مطامح الجماهير "فيصبح المركز هنا "الإنسان" وليس الله. ويصبح تلبية حاجات الناس هو المهم. لكني أرى أن النقطة السلبية في هذا الاتجاه هو أنّ قراءة القرآن بهذه الطريقة قد يجعله "وسيلة" بالنسبة للبعض لتحقيق أهدافهم، كما قد تتصارع الأيديولوجيات المختلفة حول كيفية قراءة النص القرآني وكل إيديولوجية ترى أنّ قراءتها هي الصحيحة.
ثالثا: القراءة التأويلية
يشير بوعلي إلى تعريف التأويل عند بول ريكور "السير في الطريق الفكري الذي يفتحه النص، أي الاتجاه نحو ما يضيئه النص ويشرق عليه، فيعد بذلك لغة العقل، فالنظر هو التأويل نفسه" وأهم ما يرتكز عليه هذا الاتجاه كما يشير الكاتب أن النص القرآني لا يتوقف عن توليد المعاني، ومن أهم رواد هذا الاتجاه: محمد أركون ونصر حامد أبو زيد. بالنسبة لأركون فإنّه يجب إخضاع النص القرآني للمعالجة والنقد مثل الأناجيل والتوراة، كما يجب تقديم تحليل أنثروبولوجي للقرآن من أسطورة ووعي تاريخي...إلخ، يقول أركون "عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن".
يقول نصر أبو زيد " إنّ القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب البشر طاقات تمكنهم من الفهم" وهو بذلك كما يرى بوعلي صاحب الآراء الأكثر جرأة فيما يتعلق بالتأويل.
رابعا: القراءة المعرفية
هدف هذه القراءة هو عقلنة النصوص القرآنية، وقراءة نصوص التراث العربي من منطلق عقلاني، ويمثل هذا الاتجاه الجابري، الذي تناول العقل العربي بالدراسة والبحث والنقد، كما أنّه هو من روّج لمصطلح "العقل العربي" كما يشير طرابيشي.
"اقترح الجابري قراءة للتراث تجمع بين الأيديولوجي والمعرفي حيث يبحث في التوظيف الأيديولوجي للكتابات الفلسفية العربية دون الدخول في الصراعات التراثية"
ويشير الجابري إلى زمنية الرسالة المحمدية المتمثلة في تمهيد الأديان التوحيدية والحنفية لظهور الدين الجديد، وإيمانها ببشرية الرسول وليس التنزيه والتأليه، ويشير إلى أنّ القرآن ذاته تعامل مع الرسول بنسبيته البشرية حيث نجد أنّ النبي عانى ظروف الفقر واليتم، فلم يكن القرآن يفرّط في مدحه بل تعامل معه كبشري يخطئ.
ختاما، مقال بوعلي يتّسم بالتنظيم في عرض القراءات المعاصرة للنص القرآني وأهم مناصريها، لكنّه أطال في الحديث عن القراءة المعرفية واستعراض آراء الجابري فيه، كما أنّ هذه الجزئية لم تتسم بالسهولة بل داخلها التعقيد نوعا ما، وقد يكون اهتمام بوعلي بالقراءة المعرفية نابعًا من كونها حديثة نسبيا مقارنة بغيرها من القراءات وتلقى نجاحًا واسعًا.
