محمد علي الكمزاري
تستعرض الباحثة أمل مبروك عبدالحليم في مقالها (العَالَم إرادةً وتمثلاً عند شوبنهاور) مجموعة من أفكار الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (1788م _ 1860م) والذي يُعد حالة فلسفية خاصة في النسق الفكري العالمي. فهي تنطلق من نقطة البداية في فلسفة "شوبنهاور" والتي تنبع من داخل الفرد أو باطن الذات؛ حيث يرى أنّه لكي نصل إلى ماهية الأشياء يجب ألا نبدأ من الخارج؛ وإنّما من الفرد الذي يُعد وحدة الوجود الحقيقي. ولكن كيف كان الفرد نقطة بداية في فلسفة "شوبنهاور؟ استطاع "شوبنهاور" أن يرى في الفرد وجهين: "تمثّلا" و"إرادة". "التمثل" يعني إذا نظرنا إليه من الخارج يعني مثول الشيء في الوعي، بحيث لا يقوم إلا من خلال هذا الوعي، أما "الإرادة" إذا نظرنا إليه من الداخل فكلمة "إرادة" لديه" لا تشير إلى المفهوم العادي والمألوف لهذه الكلمة - حيث يتصورها الناس عادة بأنّها إرادة واعية تسترشد بالعقل - لكنّها تشير إلى رغبة ملحة لا تهدأ وقوة عمياء لا عاقلة، أو اندفاع أعمى يُحرك كل شيء وبه يتحقق وجوده ويستمر في الحياة، بمعنى أنها تمتد فيما وراء الحياة الواعية لتشمل أيضاً قوى الطبيعة اللاعضوية. ومن هنا كانت "الإرادة" عند "شوبنهاور" تعبر عن الاتجاه اللاعقلاني في فلسفته باعتبارها قوة لا عاقلة، وهي - في الوقت نفسه - أساس للاتجاه التشاؤمي في فلسفته؛ حيث تُعد مصدراً للألم والمعاناة والشر.. وهذه النظرة يمكن أن ينظر بها كل فرد إلى نفسه على حدة، ولا يستطيع أن يشعر بها شعوراً واضحاً إلا في نفسه فحسب.
إن الفكرة عن التشاؤم هي الفكرة الرئيسة التي يدور حولها كتاب شوبنهاور الأهم: العالم إرادة وتمثّل، وهو كتاب يشي بإخفاق كبير في الحياة، وتجارب لم ينتج عنها ما كان يصبو شوبنهاور لتحقيقه، بل أوصلته لاعتزال الناس ولعن الحياة. بحيث كان يرى الوجود بؤرةً للحزن والكآبة، ويعتبر الحياة شراً كاملاً، لا مكان فيها للفرح والسعادة. وما يُسمَّى بالسعادة عبارة عن تقليل كمية الأحزان والمصائب لا أكثر. حيث يرى شوبنهاور أن الإنسان كلما زكا عقله كلما كان شعوره بالألم أشد، وكلما تبلد عقله كلما كان انخراطه في اللذة أكبر وأوسع.
مما لا شك فيه تأثر شوبنهاور بالبوذية، بل هو الذي بعثها في الغرب، فالبوذية مثله، ترى أن العالم كله مجرد وهم، هذه هي رؤية سدهارتا بوذا (563 – 483 قبل الميلاد). فهذا الرجل كان يقول في مبادئه الأربعة:
-1 الحياة معاناة.
-2 إن المعاناة سببها الارتباط بالرغبات.
-3 المعاناة تتوقف عندما تتوقف علائق البشر بالرغبات.
-4 الحرية من العذاب تتم بمتابعة طريق الثمان (تعاليم بوذا).
ورأى أنّ الوجود ما هو إلا سقوط مستمر في الموت". ويمضى "شوبنهاور" في تصوير الحياة على هذه الصورة التشاؤمية، مما يؤكد أنّ خوفه من الحياة هو الذي دفعه إلى طلب الخلاص في "النرفانا" أو العدم، فالحياة عنده ليست شيئاً إيجابياً؛ وإنما هروب من الموت. وهذا الهروب يكون بقتل الوقت كما يقول العامة. إذن فالشقاء لا مهرب منه، وكل ألم يزول ليحتل غيره مكانه، ولكل فرد نصيبه المحدد من الشقاء وفقاً لطبيعته التي تتحدد مرة وإلى الأبد. والشقاء الذي يلاقيه الفرد في حياته لا تفرضه قوة خارجية؛ وإنما فطرته نفسها هي التي تحدد كمية الآلام التي سيتعرض لها طوال حياته. ولما كانت حياة الإنسان سلسلة من الحاجات والآلام التي تنتهي لتبدأ من جديد، إذن ليست السعادة شيئاً إيجابياً بل هي سلبية في ماهيتها، فلا وجود للسعادة في ذاتها؛ وإنما تأتى السعادة من إرضاء حاجة أو لنفي ألم من الآلام، لذلك فالألم شيء أولي وشرط ضروري لوجوب السعادة.
والغريب في أمر الإنسان - كما رأى "شوبنهاور" - أنه حينما لا يجد الصعاب يخترعها، وعندما يحيا في يُسر يحاول أن يُدخل في حياته التعقيد. وهذا ما نلاحظه في الشعوب التي سارت حياتها هينة لينة بما وهبتها الطبيعة من مناخ معتدل وأرض خصبة؛ فإن هذه الشعوب تخترع عالماً خيالياً بآلهته وشياطينه وقديسيه؛ لتقدم له الضحايا والقرابين والصلوات والاعترافات...إلخ. وخدمة هذا العالم الخيالي تملأ فراغ الحياة الواقعية وخلوها من الآلام والمتاعب، فتصبح كل حادثة من حوادث العالم نتيجة لعمل من أعمال تلك الكائنات المخترعة اختراعاً.
ولا معنى للتفاؤل كما رأى "شوبنهاور"، ويكفي أن يتطلع أشد الناس تفاؤلاً على أماكن البؤس والتعاسة والمرض والقتال والجريمة ليروا إلى أي حد كان هذا العالم هو أفضل عالم ممكن، والمذاهب التي تدعو إلى التفاؤل ما هي إلا مذاهب لفظية خالية من المعنى تصدر عن رؤوس خالية من الذكاء، ولا أحد يظن أن الإيمان المسيحي يدعو إلى التفاؤل، وإنما - على العكس من ذلك - يجعل الحياة والشر كلمتين مترادفتين.
هذه الصورة المظلمة التي يرسمها "شوبنهاور" لحياة الإنسان ليس فيها سوى نتيجة واحدة، وهي - كما يقول- " من الأفضل للإنسان أن يختار العدم، وأن يؤثر الموت على الحياة. ولو أن الموت -انتحاراً- معناه العدم المطلق لانتحر الناس جميعاً؛ لكن الانتحار لا يُصلح ما أفسده الوجود. والعزاء الوحيد عما في الحياة من شر هو قصرها.
وأخيرا فإنّ فلسفة شوبنهاور ليست سوى منهج آخر، شقي وحزين ولا يحمل في ثناياه إلا الخوف من الألم. إنها طريق العاجزين عن مواجهة الحياة، والمعرضين عن الفاعلية والتأثير.
