السلطة ونظرية السيادة

أمجد سعيد

في مقالته المعنونة بنظرية السيادة، والحقوق الفردية في الدولة الحديثة، يتعمق الأستاذ إمام عبدالفتاح إمام في مفهوم السيادة في المجتمعات الحديثة أو ما يسمى الدول الحديثة التي بدورها تعنى بفردانية الإنسان، ويستشهد في أطروحته بأحد رواد القرن السادس عشر وهو الإنجليزي توماس هوبز، الذي عارض فكرة أرسطو السائدة في التراث الغربي والشرقي بأن الإنسان هو كائن مدني بطبعه، فجاء هوبز ليعارض هذه الفكرة ويقول بأن الحالة الطبيعية للإنسان هي حالة الفوضى، وأن المجتمعات الحديثة هي من صنع الإنسان برغبة جادة منه، أما إنسان أرسطو فهو ذلك الإنسان الذي تدجنه التنشئة الاجتماعية ليكون صالحاً للحياة في مجتمع سياسي أو اجتماعي. وانطلاقاً من إنسان هوبز فإنَّ هذه التنشئة هي التي تلغي حالة الفوضى التي تكون هي حالته الطبيعية، أو بما يسمى فطرة الإنسان، وفي تلك الحالة الفطرية فإنَّ كل إنسان يحاول المحافظة على حياته الخاصة بقواه الخاصة، وما أن تتساوى قوى فردين فإنَّ الصراع يصبح عنيفا وداميا، ومن هنا أطلق هوبز مقولته الشهيرة التي تصف تلك الحياة العقيمة التي تتسم بالوحشية والكراهية وقصر الأمد، والتي بطبيعة الحال لن تنتج أي مجتمع حضاري.

وهناك إجماع يدعم فكرة أن المجتمع البدائي - إن صحت تسميته بذلك- الذي يتشكل من الحالة الفطرية للإنسان أي الإنسان الطبيعي في حالة الفوضى، فهو مجتمع لا ينتج شيئاً. أما جاك بوسيه فيقول: "عندما يستطيع الكل فعل ما يشاءون، فإن ذلك يعني ألا أحد يستطيع فعل ما يشاء، وعندما لا يكون هنك سيد، وحيث الكل سيد الكل عبيد" . وكما يستدل توماس هوبز مجددا بقصة من حضارة فارس القديمة التي تتمحور حول حاجة الإنسان وتجمعاته الإنسانية للسلطة فيقول:" جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك، وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطرابات جميع أنحاء البلاد. وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة، وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإنَّ من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، أو تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية".

إن أي تجمع إنساني يحتاج إلى سلطة لكي يحيل الفوضى الفطرية أو الطبيعية إلى مجتمع منظم، أي مجتمع مصنوع وليس مجتمعا طبيعيا، مجتمع مصنوع يخلقه الإنسان وينظمه بإرادته الحرة. انطلاقا من هذه النقطة المحورية، فإنَّ السلطة تصبح ركيزة أساسية في بناء أي دولة، والدولة في ذلك لا تختلف عن التجمعات الأخرى لأنه وببساطة كل التجمعات الإنسانية تحتاج إلى سلطة عُليا؛ لكن الدولة تتمتع بسلطة أعلى وذات طابع خاص وسمات مختلفة تميزها عن باقي السلطات الأخرى، ونظرًا لما تتمتع به السلطة السياسية للدولة من صفات ذاتية خاصة فقد سماها الفرنسي جان بودان صاحب الكتب الستة للجمهورية بـ"السيادة".

جان بودان المفكر السياسي الفرنسي هو أول من نادى بمبدأ السيادة، رغبة منه في إثبات حق الدولة بالبقاء والاستمرار. ومن هنا تتعاقب المصطلحات السياسية في الدخول للمجتمعات المدنية التي تتمتع بسلطة سياسية مدنية، ومع بودان جاءت كلمة السيادة لتجد لها مكانا في مفردات الحقوق والسياسة، لتحذو حذو كلمة الدولة عندما دخلت في هذا الحقل مع ميكافيللي. وبسبب ما عاصره بودان من ثورات وانقلابات مثل التي قام بها مارتن لوثر وجون كالفن في بدايات القرن السادس عشر، فقد تراءى لبودان أن هذه الصراعات الدينية قد تؤدي لتكون صدعا كبيرا في اللحمة الوطنية الفرنسية، التي كان بودان يفضلها كثيرا، لاسيما إذا كانت مصحوبة بالتسامح الديني، وفي سبيل الحفاظ على الوحدة الوطنية نادى بودان بالسيادة المطلقة ووضع نظرية السيادة التي تتركز في يد الملك وحده فقط. ومع وجود نظريته إلا أنه أكد على نشر التسامح الديني، وأنه يجب على النظام الملكي الفرنسي أن ينشر التسامح الديني في أوروبا ليُقلل من أضرار الحروب الأهلية الفادحة وأخطائها.

قد يكون بودان هو أول من نادى بالسيادة كنظرية خاصة به، وأتى بعده آخرون مثل هوبز وجون لوك اللذين ناقشا هذه النظرية، ولكن يجب القول أن الاهتمام الذي أولاه جان جاك روسو لفكرة السيادة منقطع النظير، ورغم أنه لم يكن أول من كتب عن العقد الاجتماعي، إلا أنه كان أشد اهتماما بفكرة السيادة ممن سبقوه كهوبز ولوك. كتب روسو عن السيادة في الكتاب الأول من العقد الاجتماعي، والفصل السابع عن صاحب السيادة، ثم كتب بعد ذلك في الكتاب الثاني ثلاثة فصول: الأول بعنوان: السيادة لا تقبل التنازل، والثاني بعنوان: السيادة لا تتجزأ، والثالث: حدود السيادة. ونرى الاهتمام العميق الذي أولاه روسو بفكرة السيادة وتفنيدها بما يناسب المجتمع المدني كدولة مستقلة، ولكنها لم تكن بتلك القوة التي نادى بها بودان رغم الخصائص اللامنطيقة التي وضعها في نظريته.

للسيادة عند بودان خصائص عدة منها: استمرارية السيادة، ويجب أن تكون مطلقة لا يمكن أن تكون نسبية. وأخيرا يجب أن تكون سيادة لا تقبل النقض. قد نرى أن بودان وضع قيودا فضفاضة للسيادة، وقد تكون هذه القيود تتعارض مع تعريفه للسيادة، ومع ذلك يجب القول بأن كتابات بودان عن السيادة رغم كثرتها، كانت تفتقر للترابط المنطقي، فقد كان يعتقد بأن قانون الطبيعة فوق القانون الوضعي، ويضع معايير للحق غير قابلة للتغيير، ولا توجد أية وسيلة قانونية لمحاسبة صاحب السيادة "الملك" إذا انتهك ذلك القانون الطبيعي.

لعل السؤال الذي يتبادر للأذهان: ألا يمكن أن تكون هناك قيود على السيادة عند بودان؟

أخبار ذات صلة