التمكين المشترك للحوار الديني والمؤمل منه

منال المعمرية

إن التعايش السلمي بين أناس من مختلف الأديان والثقافات لهو أمر ذو حيوية مهمة بالنسبة إلى مستقبل العالم الذي يتميز بشهادته على تغيرات عميقة وعلى العولمة. وكل من يملك إرادة حسنة مدعو إلى الإسهام في هذا الإطار. وهذا ينطبق على المسيحيين وعلى المسلمين بخاصة، والذين عليهم أن يبحثوا عن سبيل سواء، وذلك لما يكون هذا الأمر ممكنا. هاينريش مسنغهوف من خلال مقاله "الحوار بين المسيحيين والمسلمين في النظرية والتجربة" المنشور بمجلة التفاهم، يُطمئن بأن الكنيسة الكاثوليكية قد قطعت على نفسها العهد بأن تدعم كل الجهود التي تبذل بهدف تحقيق هذه الغاية.

يعرج هاينريش مسنغهوف بداية على كاتدرائية آخن في ألمانيا، وهي كنيسة أسقفيته التي يعدها رمزا دينيا ساهم بشكل رئيسي في تطور شعوب أوروبا. فيذكر بأن كاتدرائية آخن قد استضافت اللقاء العالمي الموسع لإقامة الصلوات من أجل السلام. والذي أسهم المسلمون فيه بدورهم بلقاء الصلاة من أجل السلام، وذلك لأن هذا التجمع كان تجمعاً روحياً للتقاليد الدينية. ويمكن أيضا تفسير مشاركة المسلمين في الصلاة من أجل السلام بآخن بواقعة أن العديد من المواطنين المسلمين اليوم يحيون بهذه المدينة التي هي مدينة موسومة بقوة بالطابع الكاثوليكي. ولقد حدث أنه في عام 2003م قام مسنغهوف باستقبال ممثلي أكبر ديانات العالم بالكاتدرائية والترحيب بهم، ملقيا بدوره خطابا جاء فيه ما يلي: " إنما الرب رب وأب لكل بني البشر، وإنما هو "الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يُخَلَّصون"، وإن الرب ليرعى كل الناس، وإنه ليحب كل الناس، وإن الرب لهو رب كل الناس".

منذ مائة سنة خلت ما كان بالإمكان الاعتقاد بأن تكون قد ألقيت مثل هذه الكلمات من لدن أسقف كاثوليكي، فعلاقة الكنيسة الكاثوليكية بالأديان الأخرى كانت توصف -في أفضل أحوالها- بالاهتمام بهذه الأديان، لكن مع حفظ المسافة فيما بينها. ولئن كان أكيدا أن هذا الموقف ما كان السبب الوحيد للصراعات في الماضي؛ فإنه أسهم في إذكائها!

إن دعوة الكنيسة إلى الحوار بين الأديان والتأكيد من قبلها على الحرية الدينية والكرامة البشرية يعد منظورا جديدا وتغييرا جوهريا كونه أمرا غير مسبوق!

فالكنيسة بهذا المقتضى لا ترفض ما هو حق مقدس للديانات كما أنها تبدي بصراحة رغبتها بالمصالحة والاعتراف.
وفي فصل متعلق بالمسلمين، حض المجمع المقدس الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معاً العدالة الاجتماعية والخير الأخلاقي والسلام والحرية لفائدة جميع الناس، والحال أن هذه الرسالة لا تشوش على التزام الكنيسة وتعلقها بيسوع المسيح، ولا تتقاطع مع مقتضيات الإيمان المسيحي الخاص بالكنيسة. والحق أن إنجازا مثل هذا لهو إنجاز ملفت للنظر بحق. على أن هذا الأمر ما كان ليلغي الجدالات الثنائية وخصومات الماضي، ولكن نشأ عنه إجلال "جديد" تم إبداؤه بالخصوص تجاه المسلمين.

وفي إطار السعي المستمر لإقامة مثل هذه اللقاءات المثمرة، فإن المنتدى الكاثوليكي الإسلامي الذي انعقد في عام ٢٠٠٨، والذي ضم الزعماء الممثلين للإسلام وممثلي المجمع البابوي لإقامة هذا الحوار بين الأديان، أصدر بلاغا ختاميا لَإِقرار مؤثر بالمحبة باعتبارها أساس الدين، وبالحرية الدينية وبحماية الأقليات الدينية، كما اعتُبر دعوة إلى نظام اقتصادي ومالي أخلاقي. وبما أن الجانبين معا عانيا من وضع صعب وغيّراه إلى حال أفضل؛ فإن الأزمة كانت لها آثار إيجابية على الحوار.

 

في القسم الثاني من المقال، يستعرض مسنغهوف في عجالة عدة نقاط من أهمها:

1. ما الذي ينتظره معشر المسيحيين من الحوار.

2. وما الذي يتوقعونه من الشركاء المسلمين في الحوار.
 

يأمل المسيحيون من المسلمين أن يكون هناك تفاهم متنام؛ ذلك أن تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية شهد على حقب تعاون وتبادل، لاسيما في المسائل الفلسفية واللاهوتية؛ لكنه أيضا كان تاريخ تباعد من الطرفين وصراعات عنيفة. وفي القرون الماضية أظهر المسيحيون والمسلمون أحكاما مسبقة بعضهم عن بعض وأساء بعضهم إلى بعض، وأكنوا الضغينة لبعضهم بعضا، وهذه أمور مشينة عليهم أن يصححوها وأن يتجاوزوها بإجراء حوار مفتوح. وحين نتحدث بانفتاح، وبثقة متبادلة حديث إنسان لإنسان، ومواطن لمواطن، ولاهوتي للاهوتي، فإنه يمكننا حينها أن نفهم أفكار غيرنا الدينية فهما جيدا.

إن على كل إنسان أيضا أن يحترم قناعات الآخر الدينية، ولن يكون اتخاذ القرار بالنسبة إلى أتباع إيمان بعينه حقيقيا وأصيلا إلا إذا بني على فتح وهداية، وبكل حرية ونزاهة يمكن أن يشرح كل منا إيمانه للآخر، وكل دين من حقه فعل ذلك بالمثل. ولاسيما عندما يكون المسيحيون يعيشون في بلدان ذات أغلبية مسلمة أو حين يكون المسلمون يعيشون في بلدان ذات أغلبية مسيحية، ففي كلتا الحالتين عليهم معا أن يسعوا إلى إجراء حوار فيما بينهم. وليس يهدف الحوار إلى بيان درجات الاختلافات، وإنما يبتغي فهماً أحسن وتعايشا أفضل. والحال أن الاحترام والتسامح شرطان قبليان ضروريان لهذا الأمر.

ويؤمل من مثل هذا الحوار أن يؤدي إلى تحسنات في السلوك بقدر ما يتعلق الأمر بالجوانب العملية للعيش المشترك. ولهذا الداعي، ذكر مسنغهوف أمثلة استقاها من بلده، وقد تحققت فيه منذ أمد. إن بناء المساجد مثلا مسألة حساسة في القرى والمدن التي انطبعت أيما انطباع بالكنائس لعهود قد خلت. وفي الوقت نفسه، فإن عدد المساجد صار يصعب حصره؛ ففضلا عن بيوتات الصلاة، ثمة مساجد كبرى شيدت. هذا ويتمنى موسنغهوف كما يطالب البعض من المسيحيين بأن تلقى الخطب في المساجد باللغة الألمانية، ذلك أن الإسلام صار جزءا من ألمانيا، ولذلك ينبغي أن يُدعى إليه ويوعظ بلسان البلد، حيث يشكل المسلمون ٥% من السكان.

ونتيجة لذلك، وبناء على ما سبق، فإنه لمن المتوقع من المسلمين تكريس مفهوم الحرية الدينية وتوفير الحماية للأقليات الدينية في بلدانهم وذلك بجدية تامة، فمن حق الأقليات أن تحظى بالاحترام الخاص بقناعاتها الدينية وممارسة شعائرها في المجال الخصوصي والعمومي معا. وعلى علماء الإسلام بدورهم أن يستخدموا نفوذهم على عامة المسلمين لكي يفسروا إلى أتباعهم أن الأمر المتعلق بملاحقة المشركين (التوبة؛ الآية 5 ﴿إِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾) الذي يعود إلى الحقبة المبكرة من تاريخ الإسلام ما عاد صالحا اليوم؛ فكل الزعماء الدينيين من واجبهم الدعوة إلى ثقافة المحبة والتفاهم وعدم العنف. على أننا نحتاج إلى أكثر من مجرد الاحترام المتبادل. أَوَ لسنا ملزمين بأن نشهد على إيماننا بإله واحد، لا سيما في عالم مهدد بالاغتراب الديني وبتنامي النزوع الاقتصادي المادي؟ هذا الإيمان من شأنه أن يجمعنا. أليست هذه العقيدة المشتركة تدعونا إلى ضرورة العمل ما أمكن ذلك سوية لصون الحياة البشرية وبناء عالم أكثر عدلاً وإقامة السلام والحفاظ على الخليقة؟ عندما يلتقي المسيحيون والمسلمون، فإن عليهم ألا يكونوا "وجها لوجه"؛ وإنما "جنبا إلى جنب". ينبه هاينريش مسنغهوف إلى أن الميراث الإسلامي إن كان سيزهر ويؤتي ثماره في أوروبا، فإن عليه أن يعير الانتباه إلى تاريخ أوروبا وقناعاتها وتجاربها ورؤاها. هذا ويأمل أن يعمد المسلمون إلى إغناء الحياة الأوروبية في جانبيها الثقافي والروحي وفي مجالات الخلق والإبداع والتقويم التحليلي. ولئن نجح هذا الأمر، فإنه سوف تعمل هذه السيرورة على تغيير المسيحيين والمسلمين، وهذه عملية ضرورية بالنسبة إلى مستقبل تجمع الشعوب وتوحدها.

منذ بدء القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن العشرين، تميز موقف الكنيسة من المسلمين -في جانب كبير منه- بالبعد والإدانة، ومنذ عصر النهضة أبدت أوروبا اهتماما جديدا بالإسلام وبالشرق، ومهدت السبيل من أجل تغير في الرؤية. وفضلا عن هذا، أدت التغييرات الشاملة إلى فهم جديد لوحدة الشعوب والثقافات، وليس يسعنا إلا أن نكون مدينين لهذا التطور معاصرين له، وممهدين للحوار من جانبنا كمسلمين، نابذين لكل أنواع الحدية والتقوقع والانغلاق.

 

أخبار ذات صلة