إشكالية المجتمع الحديث في ظل هيمنة النظام الديني

 أسماء عبدالله القطيبي 

يستعرض الأستاذ محمد الرحموني في مقاله "المذاهب الفقهية والمجتمعات والسلطات في أزمنة الإحياء المعاصرة" التحولات المفاهيمية لمسألة الفقة الإسلامي، وتطبيقاته، وتطوره، وذلك من خلال نموذجين بارزين في التاريخ الإسلامي وهما: الإصلاحات التي حدثت في الدولة العثمانية، والأخرى التي حدثت إبان الثورة الدستورية عند الشيعة. حيث إن الإصلاحات العثمانية ابتدأت بفصل السلطة القضائية عن السلطة المباشرة للحاكم والمؤسسات الدينية، مما سمح بإدخال مفاهيم حديثة مثل الحرية والمواطنة والمساواة، وهو ما يعد خطوة في الاتجاه نحو تأسيس مجتمع مدني لا يتعارض مع الشريعة، بل ينطلق من خلالها مواكبا تغيرات العصر. وهي خطوة كبيرة لاسيما وأنّ نفوذ الدولة العثمانية كان يمتد لأغلب البلدان الإسلامية، وهو ما أثر عليها كافة، وظهر ذلك في صدور مجلة للأحكام العدلية سنة 1876 م ومحاولات فردية للانفتاح على مفاهيم جديدة تبناها مفكرون مثل محمد عبده، والطاهر بن عاشور الذي ألف كتابه الهام "مقاصد الشريعة الإسلامية". أما الإصلاحات التي حدثت قي إيران فهي نتاج تأثر بإصلاحات الدولة العثمانية، وقد واجه المصلحون الشيعة عوائق أكبر من تلك التي واجهها أصحاب المذاهب الأخرى، كون المذهب الشيعي يقر بالعصمة، التي تعطي الحق لكبار رجال الدين بالتدخل في القرارات السياسية، لكنهم استطاعوا – مستغلين التدهور الاقتصادي في البلد- إقناع السلطة الدينية أن الإصلاح إنما يأتي لمصلحة المجتمع في ظل غيبة الإمام. لكن هذه الفترة من الانفتاح الديني لم تستمر طويلا، وتراجعت الأمة مرة أخرى إلى عصر التقليد.

 

أدت عوامل عدة إلى تقهقر المد الإصلاحي الذي ابتدأ في العديد من الدول الإسلامية، أبرزها عدم وجود قاعدة مشتركة تتحرك على أساسها الجماعات الإصلاحية، وهو ما أضعف تواصلها وشتت جهودها، والعامل الآخر هو تزايد النفوذ الغربي في المنطقة، حيث اعتُبرت الإصلاحات نوعا من الخضوع للنفوذ الغربي، ومحاولة مسيّسه للغزو الثقافي للمنطقة. وكان من أبرز القضايا التي أثير حولها الجدال قضية المرأة، وهو ما يجعلنا نتسأل عن السبب الذي يجعل دائما من قضايا حقوق المرأة قضايا متجددة يتم التركيز عليها في المنعطفات الاجتماعية والسياسية والدينية. فلعلّ ذلك يرجع إلى كون القضية معيارا لقضايا اجتماعية أخرى، أو لعلها من القضايا التي يسهل الحديث فيها والنقاش حولها، خاصة عند أولئك الذين لا يملكون الحماسة والرغبة في التغيير، يتضح ذلك في المقارنة بين القضايا التي كان يتداولها الإصلاحيون -خاصة الحقوقية منها- والتي لم تكن تفرق بين الجنسين، وبين تراجع مستوى الاهتمامات إلى العودة للحوار العقيم حول المرأة في الإسلام، وحدودها وأحكامها، وأهليتها وغير ذلك، وهو أمر حظي بنصيب وافر من المؤلفات والفتاوى عبر تاريخ الإسلام.

أما فيما يختص بتخوف السواد الأعظم من كون التغيير مؤامرة غربية هدفها نزع الهوية الإسلامية من المسلمين ليسهل انقيادهم وتغريبهم، فهو أمر يمكن تفهمه في ظل امتداد النفوذ الغربي في المنطقة. وفي ظل الخطاب الديني الذي يتبناه الخطباء والوعاظ في مثل هذه الفترات، وهو في مجمله خطاب عاطفي لا يسعى لعرض أدلة منطقية. ولتقريب الصورة للقارئ أستشهد باقتباس من كتاب "الحداثة من منظور إسلامي" للدكتور محمد سعيد بني عايش متحدثا عن الفترة التي نتناولها فيقول: "لم تترك أفكار الثورة الفرنسية في العالم الإسلامي للصدفة، فقد عملت الأنظمة الفرنسية المتعاقبة على الترويج لها بشكل كبير من خلال وسيلتين الأولى هي قوة السلاح، والثانية وهي أكثر تأثيرا هي الترجمة والنشر، فتغلغلت الأفكار الغربية في العالم الإسلامي بتسارع، حين تم إرسال أعداد متزايدة من المسلمين أوائل القرن التاسع عشر إلى معاهد التعليم العالي في الدول الغربية... والعديد من هؤلاء التلاميذ أصبحوا بعد عودتهم ناقلين لعدوى الأفكار الجديدة"، هذه اللغة التي يغلب عليها الكُره ورفض الآخر هي اللغة التي كان يخوف بها الوعاظ العامة، معززين أفكارهم تلك بما يلخصه الأستاذ محمد الرحموني في مقاله بثلاث أفكار رئيسية وهي مفاهيم الشمولية، والحاكمية، والجاهلية؛ حيث ذكروا أنّ الإسلام نظام شامل، ولا يحتاج للتفاعل مع الأنظمة الأخرى، وهو صالح لكل مكان وزمان. أمّا الحاكمية فهي الزعم بأنّ القانون من عند البشر، والشريعة من عند الله، لذا فالحكم لله كونه محيطا إحاطة تامة بما يتناسب مع عباده، أمّا مفهوم الجاهلية فهو مفهوم خطير يُكفِر كل من لا يقر الحكم بما أنزل الله، استنادا لقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". وجميع هذه الأفكار إنّما في مضمونها تسعى لجعل السلطة الدينية المحرك الأساسي لبقية السلطات، توجهها كيف تشاء تحت اسم الدين وحكمة الله.

لم يكن لهذا الفكر المتشدد الذي أفرز جماعات متطرفة، وأثّر سلبا على الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية أن يستمر لفترة طويلة، خاصة مع تراجع النفوذ الغربي في المنطقة، لذا فقد تراجع شيئا فشيئا المد الإسلامي المتطرف، وبدأ بعض كباره في المشاركة في غمار الحياة السياسية، وحثوا أتباعهم على المشاركة في الانتخابات والمساهمة في العمل الجمعياتي، مما يعد خطوة تقارب تقلل من الهوة التي حدثت بين أصحاب الفكرين. ومثالا على ذلك حركة النهضة التونسية بقيادة زعيمها راشد الغنوشي التي صاغت مشروع الدستور التونسي الجديد، مكتفية بذكر الإسلام كدين رسمي في البلاد، وهو ما أنقذ تونس من الكثير من الصراعات الدينية والمذهبية التي كانت ستفتك بمجتمعها المتنوع. وبفضل نجاح هذه التجربة وغيرها، ولـ "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" كما ورد في الحديث النبوي، تنازلت الأنظمة والجماعات عن آرائها المتعصبة، ومخاوفها في سبيل إعادة مشروع النهضة، والمساهمة في مشروع الدولة المعاصرة.

أخبار ذات صلة