أبو نصر بن عراق: الأمير الذي تواضع للعلم فرفعه

فاطمة بنت ناصر

يستعرضُ المفكر رشدي راشد في مقاله "أبو نصر بن عراق عندما كان الأمير عالماً"، إسهامات شخصية إسلامية لم تنل حظها من التعريف والانتشار رغم أسبقيتها في تناول علوم الرياضيات وعلم الهيئة الرياضي، بل وقد تتلمذ على يديه العالم المعروف أبو الريحان البيروني، ولعل ذلك يعود إلى نُدرة أعماله الباقية؛ فهي على الرغم من كثرتها لم تنل نصيب البقاء.

ولكن، من هو أبو نصر بن عراق؟.. ينتمي أبو نصر إلى أسرة عريقة حكمت خوارزم وهي المعروفة بأوزباكستان حالياً. ولا يُعرف تاريخ محدد لولادته ووفاته، إلا أن أغلب الدارسين حددوا تواريخَ تقريبية استناداً لتاريخ ولادة ووفاة تلميذه البيروني، فمن المرجح أن تكون ولادته في 950 ميلادية في خوارزم (أوزباكستان الحالية)، وسنه وفاته بعد سنه ١٠١٧ كما يذكر كاتب المقال، وهناك مصادر صادفتها أثناء بحثي عن هذه الشخصية حددت سنة وفاته في ١٠٣٦ في غزنه (أفغانستان الحالية).

 

لقد انتهى حكم أسرته لخوارزم حين استولى السلطان محمود الغزنوي على خوارزم في الثالث من يوليو سنة ١٠١٧ ميلادية. والسلطان محمود ليس بغريب على أسرة بني العراق فخليفة خوازمشاه المأمون كان زوج أخته. وقد عاش أبو نصر وتلميذه البيروني في بلاط السلطان محمود المعروف عنه رعايته الكبيرة للعلوم والعلماء. وكذلك بنو العراق من قبله عرفوا برعايتهم للعلم وأهل الحكمة، وأبرز من تنعموا بهذه الرعاية في عهدهم: أبو علي بن سينا وأبو السهل المسيحي وأبو الخير الخمار وأبو الريحان البيروني وبالطبع ابنهم أبو نصر عراق (ابن أخ خليفة خوارزمشاه).

العلوم التي خاض فيها ابن عراق

كما هو معروف في ذلك الزمان من تعدُّد اهتمامات العقول، وسعة اطلاعها على معارف شتى، كان أبو نصر بارعاً في العلوم الرياضية والفلك بشكل خاص، وله أيضاً شواهد تدل على آرائه في أمور الدين والفلسفة، وهي آراء -كما سنرى- تنم عن معرفة عميقة وشخصية رزينة.

أمور الدين والفلسفة: ورد في رسالة لابن عراق بعنوان "رؤية الأهلة"؛ حيث تتناول الرسالة مناقشات تتعلق بالفلك والقضايا الدينية المتعلقة: كرؤية الأهلة وصوم رمضان. وتكشف كتابة ابن عراق عن طِباعه ونوع شخصيته الميالة للحكمة والحِلم والبعد عن الشدة والتعصب. فيقول في مناظرته لمن سماهم "فرقة من الغالية": "وقد كنت كثير الاجتماع مع هؤلاء القوم والمناظرة إياهم، فمرة مجاهراً بالمخالفة، ومرة مستتراً بالمقاربة؛ إذ كان الزمان في أيام أبي عبدالله خوارزمشاه يوجب ذلك خاصة على أمثالي". وهذه المناقشات كانت تدور حول سؤالين محورين؛ هما:

- هل ما يعرفه العلماء بالتقريب يعرفه الله على وجه التحقيق أم بالتقريب أيضاً؟

- هل عصمة الأئمة تمتد من أمور الدين إلى مسائل الفلك والعلوم؟

 

العلوم التي برع ولمع فيها ابن عراق

* "الرياضيات"

تعد رسائله لتلميذه البيروني ورسائل أخرى في الرياضيات أبرز ما حفظ من تراث هذه الشخصية الفذة.

 وأهم ما وصلنا من مؤلفاته في هذا المجال:

1- مجموعة رسائل إلى تلميذه البيروني في مخطوطة محفوظة بمكتبة خدابخش ببتنا بالهند، ونشرت دون تحقيق عام ١٩٤٨.

2- كتاب "إصلاح كتاب مانالاوس في الأشكال الكروية".

3- ضمنية كتاب الأصول.

4- رسالة في الجواب عن بعض المسائل الهندسية.

5- رسالة في معرفة القسي الفلكية بعضها من بعض.

6- عدد من الأعمال المفقودة: ككتاب "تهذيب التعاليم"، وكتاب "إحداث النقط على الخطوط" رسالة في عمل المسبع.

كثيرة هي إسهامات ابن عراق في الرياضيات، خاصة في الهندسة الكروية التي ارتبط اسمه بها، وعلم الجبر الذي لم يصلنا شيء من مؤلفاته فيه، ولكن رسالة عمر الخيام "في ربع الدائرة" تشير إلى أعمال ابن عراق في هذا المجال. كما كان من أهم مخترعي حساب المثلثات الكروية. ويمكن حصر إسهاماته الرئيسيّة في فرعين:

- الهندسة الإقليدسية

- الهندسة الكروية وحساب المثلثات الكروية

أما أبرز أعماله في الهندسة الإقليدسية، فقد كان في عمل القطوع المخروطية والمعادلات الجبرية. وفيما يتعلق بالهندسة الكروية وحساب المثلثات الكروية، فيجب أن نشير إلى أن هذا الفرع في الرياضيات يعد أول ما اكتشف من الهندسيات اللاإقليدسية. ويُعنى هذا الفرع الرياضي بدراسة الخواص المترية على سطح الكرة. وأبرز من أسهم فيه أبو الوفاء البوزجاني، وهو معلم ابن عراق، والخجندي وكوشيار بن لبان وبالطبع ابن عراق. أما قبلهم فكانت الإسهامات أكثرها عند علماء الإسكندرية مثل بطليموس في كتابه المعروف "المجسطي"، وكتاب "في الأشكال الكرية" لمنالاوس. وهذه الكتب اليونانية نُقلت إلى العربية من خلال ترجمة حنين بن إسحق وابنه في القرن التاسع الميلادي. وقد ضاع الأصل اليوناني لهذه الكتب ولَم يتبق إلا ترجماتها العربية التي تمت ترجمتها إلى اللاتينية وغيرها من اللغات. وتعد نظريه منالاوس "الشكل القاطع" الأداة الرئيسيّة في الحسابات الفلكية حتى تم التوصل إلى قانون الجيوب. وأبرز أعمال ابن عراق فيما ذكر أنه تعمق فيها وأضاف إليها لتصبح بذلك فصلاً مستقلاً من فروع الرياضيات. كما أن ابن عراق قد اكتشف مفهوم "المثلث القطبي" الذي يُنسب حتى اليوم وللأسف إلى العالم الفرنسي (Francois viete) الذي عاش بين ١٥٤٠-١٧٠٣، ويقوم مفهوم المثلث القطبي على فكرتين:

أولا: إن كان مثلثا كرويا معلومَ الزوايا، لكنه مجهول الأضلاع، فمن الممكن معرفة أضلاعه برد حسابها إلى حساب زوايا مثلث قطبي.

ثانيا: مفهوم الثنائية، وتحديدا علاقة التحول بين شكلين، ترجع الشكل المتحول إلى أصله، مع الاحتفاظ بخصائص جديدة وببعض خصائص الشكل الأصلي.

ولقد بَرَز ابن عراق في هذا المجال؛ الأمر الذي حدا به إلى تصحيح بعض مؤلفات من سبقوه في هذا المجال كتصحيحه لكتاب "زيج الصفائح" لأبي جعفر الخازن. كما صحح كتاب "الأشكال الكرية لمنالاوس" والذي كان يعد أحد أمَّات الكتب في مجاله.

 

التصحيح المفقود

وأعني بهذا أن الأعمال التصحيحية كالتي قام بها ابن عراق في مجاله الرياضي تكاد تنعدم في حاضرنا اليوم. وكأن من تقدمونا ومن سبقونا لا يقعون في الخطأ، ولا يُمكن المساس بأعمالهم بإعادة النظر والمراجعة والتصحيح إن تطلب الأمر كما فعل ابن عراق.

وأختم بالتأكيد على أهمية النظر في خصائص وسمات العصر الذهبي للفكر الإسلامي، وكيف تمكنا حينها من تصدر الأمم معرفيًّا، وتصدير ما نتوصل إليه من اكتشافات وفتوحات معرفية.. لقد كُنَّا متواضعين برفعة. فنأخذ من غيرنا غير متعصبين ونرد ما يرد عليه، لا نأخُذ إلا الحق ولا نعطي إلا الحق.

وأضع بين أيديكم ما قاله ابن عراق في تصحيح كتاب أبي جعفر، وقوله هذا يستحق أن يعمم ويعمل به اليوم: "وإن كان بعض الناس يعظم أن يستدرك على مثل أبي جعفر في تأليفاته سهوا وقع له، فإن الأولى بمؤثر الحق ألا يتهيب ذلك، ولا يطوي عن أهل العلم باباً من أبوابه ظهر له، وإن كان الذي يُستدرك عليه ما يستدرك فاضلاً متقدماً في ذلك العلم، فإن العالم أقل ما يسلم من أن يقع له ما وقع لأبي جعفر. وأبو جعفر نفسه استدرك على مانالاوس في كتابه الموسوم بالأصول الهندسية غلظاً أو سهواً وقع له".

أخبار ذات صلة