أم كلثوم الفارسي
يرقص الناس رقصة التانغو الأرجنتينية في باريس، ورقصة البكوتسي الكاميرونية في دكار، والصالصا الكوبية في لوس أنجلس، ويقدم ماكدونالد شطائر اللحم المفروم (الهامبرغر) في بكين، ونجد أطعمة كانتون في سوهو، ويثير فن الرماية بالقوس الروح الجرمانية، وتغزو الفطيرة الباريسية إفريقيا الغربية ، أما الفيليبينيون فينوحون على الهواء مباشرة أميرة بلاد الغال. هكذا وصف جان بيير فارني في مقدمة كتابه "عولمة الثقافة" رواج خليط المنتوجات الثقافية في العالم اليوم.
قال الكاتب الأمريكي المعروف (توماس فريدمان) ذات مرة: "إنَّ العولمة هي أشبه بقطعة بيتزا يضع عليها كل بلدٍ في العالم بعض المكونات من إنتاجه المحلي: فالهندي يضع عليها مثلاً البهارات الحارة، والأمريكي يضع عليها السجق، والإيطالي يضع عليها الزيتون. بمعنى أنَّ بإمكان كل بلد أن تكون له مساهمته في العولمة، مساهمة تنبع من تخصصه وتميزه في مجال معين. غير أنّ الحاصل فعلياً هو أنَّ خيارات دعاة العولمة الجديدة محدودة، فإما أن تكون ملحقاً بهم، وإمَّا أن تكون مختلفاً عنهم".
وهنا نستعرض ما قدمه الباحث دوغلاس براون في مقاله "القيم والأخلاقيات المشتركة في المجتمعات الإسلامية والمسيحية في عصر العولمة"، حيث أوضح أن مفهوم العولمة ينطوي على عناصر الجذب والشد والتدافع والتنافر، مما أدى إلى الاعتقاد بأن طبيعة العولمة تتطلب وصفها بأنها ظاهرة عرضية، تتعلق بتطور المجتمع البشري والتغيرات العالمية، من حيث هي في بداية التكوين ولم تتشكل نهائيا، الأمر الذي يجعل من الصعب تحديد الرأي المناسب والموحد الذي يمكن الأخذ به للإحاطة بالظاهرة.
ليس من أهداف هذا المقال الاستفاضة في مصطلح العولمة، ولا بيان أنواعها، فقد أنفق فيها وقت طويل، وسُوِّدت من أجلها ألوف الصفحات... غير أن ما يهمنا هو تسليط بعض الضوء على ما يمكن أن يسمى بعولمة الأخلاق حيث لا تقتصر العولمة على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها بل إنها أخذت فعلاً تعمم القيم الثقافية التي تكوّن لُبَّ حياة المجتمع ، وبخاصة القيم الأخلاقية والدينية منها ، إذ أن القيم الأخلاقية والدينية وما تؤدي إليه من سلوك فردي واجتماعي هي الأرضية التي تقوم عليها أنماط السلوك الاجتماعي ، وهو ما يمثل الحياة الثقافية في مجملها ، باعتبار أن الثقافة طريقة لرؤية العالم .
عليه يعتبر موضوع العولمة وتأثيراتها على الهوية أحد الموضوعات المهمة التي بدأ الباحثون منذ منتصف القرن الماضي الاهتمام بها نظرا لحداثة مفهوم العولمة نسبيا، وكذا التأثيرات العميقة التي تتركها هذه الظاهرة بمختلف تجلياتها على الهوية، وهو ما جعل مجموعة من المجتمعات في مختلف أرجاء العالم تتجاوب مع العولمة بطرق مختلفة حيث رأى فيها البعض عاملا سلبيا ومؤثرا على الهوية عن طريق تذويب الملامح الثقافية والدينية لهذه المجتمعات وقولبتها وفق نظام غربي محض بينما رأى فيها البعض الآخر أنها عامل مساهم في التقدم و التطور بعيدا عن التقاليد البالية والعادات التي لا معنى من بقائها في الوقت الراهن، الذي يتسم بالتحديات الجسيمة تشمل جميع مناحي الحياة الاقتصادية منها والسياسية والتقنية والمعلوماتية …وتتعدى هذه الأخيرة في حد ذاتها سابقاتها، لما يطبع عصر العولمة الذي يقوده أباطرة المعلومات من محاولات لتغيير المعالم الثقافية والفكرية المميزة للمجتمعات الإنسانية..
وبالتالي يعد البعد الثقافي للعولمة من أخطر أبعادها، فهي تعني إشاعة قيم ومبادئ ومعايير ثقافة واحدة وإحلالها محل الثقافات الأخرى، مما يعني تلاشي القيم والثقافات القومية وإحلال القيم الثقافية للبلاد الأكثر تقدما محلها، وخاصة أمريكا وأوروبا، الأمر الذي قد ينعكس سلبا على الهوية الثقافية للشباب العربي.
فالعولمة التي تعني تعميم نموذج الحضارة الغربية – خاصة الأمريكية – وأنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على العالم كله، يمكن اعتبار الجانب الثقافي أهم أثر من آثارها، ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى ظهور تيار العولمة الذي يريد جعل العالم قرية صغيرة، الأمر الذي أحدث اتصالا وتبادلا للثقافات بين الدول، وقد شكل هذا الاتصال تهديدا للهوية الثقافية وما يرتبط بها من أخلاق ومبادئ يشكل الدين، واللغة أساسا لها.
وقد لعبت ثورة الاتصالات دورا أساسيا في إحداث هذا التأثير الثقافي، فبدلا من الحدود الثقافية الوطنية والقومية تطرح إيديولوجيا العولمة حدودا أخرى غير مرئية ترسمها الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية بفرض الهيمنة على الأذواق والفكر والسلوك، فإن حتمية استمرار العالم في الارتباط بطريقة متزايدة خلال العقود القادمة، والإقبال على المعلومة سيتزايد وستصـبح المعلومة موجودة حتى في أبعد المناطق على وجه الأرض. وسيستمر المجتمع العالمي في التشكل وتجاوز الحدود الوطنية، واللغوية، والإثنية. والإنسانية ستبقى على وعي بالارتباط الاقتصـادي، والسياسي، والبيئي، والاجتماعي بين الأمم على حساب الأخرى.
وقد يبدو ظاهرا للباحث ما ترفعه العولمة ونظامها من شعارات سامية كحماية الحرية عامة وصون الحريات الأساسية الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، من دون النظر إلى عرق أو لون أو دين أو اتجاه سياسي أو أي انتماء طائفي ، إضافة إلى نشر الديمقراطية الليبرالية وضمنها التعددية السياسية التي تسمح للجميع من دون تمييز المشاركة الفعالة والإيجابية في السلطة، وفي إدارة دواليب الحكم في الدولة الحديثة والمعاصرة. وحماية سائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وحق السكن وحق التعليم وحق العمل وحق حرية المعتقد والتدين والاستطباب والعلاج وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق التي لا تستقيم الحياة الكريمة إلاّ بها. لا سيما نقل العلم والتكنولوجيا إلى مختلف أنحاء العالم، فلكل إنسان الحق في الاستفادة من العلوم المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة التي عرفها العصر.
ولكن للأسف جميع هذه الشعارات البراقة تنطوي على التناقض المذموم بين ما تقول وما تفعل، فالكذب الإيديولوجي والسياسي يضع الإنسان والحضارة في مأزق التوتر الدائم، المؤدي إلى الانفصام الحضاري والتمزق الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والثقافي، والتراجع والضعف والفساد الاقتصادي، والتهور العسكري والحربي، هذا بسبب انتفاء الثقة بين بني البشر، ونماء خوف الجميع من الجميع، لأن الجميع يصبح ضد الجميع، هو الذي ينطبق على شعوب ودول العالم المعاصر. ولا شك في أن الثقافة القوية في وسائلها ومضامينها تغير المواقف وتشكل رأياً عاماً جديداً ، وتقوم أحياناً على تزوير الحقائق ، وينتج عن ذلك تغييرات عميقة في البنى الاجتماعية وقيمها والتمرد عليها ، وتبنّي ثقافة الاستهلاك للأشياء والأفكار والقيم .
ولهذا يرى العلماء أن الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية أصبح التحدي المطروح علينا بشدة في عصر السماوات المفتوحة التي تكتظ بالأقمار الصناعية التي تحمل مئات القنوات التلفزيونية والشبكات العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي من كل أنحاء العالم بما تنطوي عليه من تأثيرات مختلفة تشكل الفكر والوجدان للشباب على حد السواء، فالإحساس بالخطر يستلزم البحث عن الهوية و الانتماء حتى لا نتعرض للصراع.
