عاطفة المسكرية
جاء الدين الحنيف بقيم إنسانية ونادى بالالتزام بها. تتركز هذه القيم في تعاملات بني البشر، سواء بين بعضهم البعض وبين ذواتهم وفي ردات أفعالهم ونظرتهم للحياة عموماً. ومن هذا المنطلق يمكننا الاستدلال بالكيفية التي استعرض بها الدكتور عبدالرحمن السالمي بعضا من القيم التي جاء بها ديننا الحنيف. حيث ناقش في مقالته التي جاءت بعنوان (النظام القيمي في الدين والمجتمع) هذه القيم وأهمية حمل الأمانة الموصى بها للمؤمنين في أخلاقهم وجل تعاملاتهم الإنسانية. أن تؤمن بالله وأن تعمل صالحا وأن تصبر صبرا تجازى به في الآخرة، هذا بالإضافة الى قيم أخرى كثيرة كالمساواة والرحمة والكرامة والعدل. إلا أنه وبجانب التركيز على بعض القيم طرح الكاتب فكرة تضارب قيمتي العدل والرحمة من منطلق صعوبة جمعهما في موقف واحد.
قد لا يتفق الغالبية على أن تحقيق العدل يتنافى مع الرحمة ولكن من الممكن فهم الفكرة من منطلق قانوني هنا، حيث إنَّ القوانين شرعت لا لتتناسب مع كل الأطراف ولكن لتحقيق العدالة قدر الإمكان ولو كانت مجحفة في حق أطراف أخرى. على كل، تتمحور أغلب القيم التي جاء بها الدين حول تحسين جودة حياة الإنسان إذا ما تحققت، من الممكن قياس ذلك بملاحظة ماهية أوضاع وظروف المجتمعات التي تسود فيها العدالة والرحمة أمام المجتمعات التي تفتقر لهذا الشيء. ومن منطلق علمي وبناء على الأبحاث والواقع، من الممكن مناقشة أهمية تحقيق العدالة والتركيز عليها دون باقي القيم في الإطار المجتمعي تحديدا، ففي السنوات الأخيرة، أصبح مصطلح "العدالة الاجتماعية" بارزاً مثل "حقوق الإنسان". فما هي العدالة الاجتماعية وحول ماذا تتمحور؟ إن الإنصاف أساس المفهوم واختصاره سواء في الثروة أو الفرص والاحتياجات الأساسية.
ولكن حدثت على مدار العقود تغييرات مفاهيمية وضمنية، حيث يستخدم ذات المصطلح في المناقشات الجندرية والعرقية والبيئية والاجتماعية، وتبقى أهمية العدالة قائمة لأسباب كثيرة. نستفتح جانب الحريات الدينية أولا، فالعدالة إذا ما كانت قانونا ساريا فإنها تحمي الناس من التمييز على أساس الدين، حيث إن الأديان تعد جزءا أساسيا من الهوية. والتحرر من التمييز الديني يقع مباشرة من ضمن مسؤوليات العدالة الاجتماعية. لدى العديد من الدول قوانين تثبط الحرية الدينية، بينما يفشل البعض الآخر في فرض الحماية. يريد دعاة العدالة الاجتماعية أن تكون جميع الأديان حرة وآمنة، بما في ذلك حق الشخص في عدم اتباع أي دين كذلك – بغض النظر عما إذا كنَّا مؤيدين لذلك أم لا. إضافة إلى ذلك تقي العدالة الأشخاص المختلفين من العنصرية والتمييز على أساس العرق، وهي قضية لا زالت قائمة بل وحاضرة بقوة في معظم المجتمعات – ولو حاولت بعض هذه المجتمعات ادعاء الحداثة وتجاوز الأفكار الرجعية. قد يصعّب على الناس العثور على عمل والعيش بسلام وتزويج من يريدون وأكثر من ذلك، حيث إنه من السمات الرئيسية للعدالة الاجتماعية حق الناس من أي عرق كانوا في العيش بشكل جيد والحصول على فرص متساوية. وإذا ما نظرنا إلى نطاق أوسع – عالمي ربما – نجد أن العدالة تعد مطلبا مهما في مسألة الأولويات والأساسيات التي لا بد وأن تكون حاضرة في أي مجتمع مهما كان مستواه الاجتماعي، أولها يتمحور حول تحسين الفرص التعليمية للأطفال. التعليم الجيد أمر أساسي لإنهاء دورات الفقر وإتاحة الفرصة للجميع لتحقيق أحلامهم. ومع ذلك، لا يمكن لعدد لا يحصى من الأشخاص الحصول على تعليم كافٍ لمجرد المكان الذي يعيشون فيه أو لأنهم يواجهون تمييزًا آخر؛ حيث تنص العدالة الاجتماعية أن يكون الجميع قادرين على التعلم في مكان آمن يشجع ويوفر فرصًا متساوية للجميع حتى يستفيد المجتمع عندما يصبح الأطفال فيه متعلمين قادرين على قيادة مجتمعاتهم والتحسين من جودة حياتهم.
وتنص العدالة على أن تكون حاضرة للتسوية في الخلافات الجندرية التي تعد إحدى المسائل الجدلية في أوساط مجتمعاتنا العربية اليوم وتحديدا في مسألة العدل أو المساواة بين الرجل والمرأة. اعتادت المجتمعات قديما بطريقة ما أو بأخرى التمييز بينهما وتقسيم الأدوار في كل مجال من مجالات الحياة اليومية. يركز جزء كبير من العدالة الاجتماعية حديثا على معالجة هذا الأمر، لكي يُعتبر أي مجتمع "عادلاً"، يجب أن يعامل الأشخاص بإنصاف بناء على قدراتهم واجتهاداتهم، فلا بد من تعزيز (المساواة أو العدالة ) بين الجنسين حيث يبدو أن التمييز على أساس الجنس هو أحد أقدم أشكال الظلم في جميع أنحاء العالم.
تعد النساء والفتيات أكثر المجموعات تعرضًا للاضطهاد في التاريخ، ويزداد الأمر سوءًا بالنسبة لهن إذا كن أيضًا أفرادا في جماعة مضطهدة أخرى، مثل عرق أو جماعة معينة. تسعى العدالة الاجتماعية إلى سد الفجوة وتمكين المرأة بغض النظر عن مكان وجودها. وأخيرا اذا وجدت العدالة في الوسط المهني والاقتصادي فهي تعمل على تعزيز المساواة الاقتصادية. لأنه يبدو أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتوسع باستمرار. حقيقة أن بعض الناس يكافحون من أجل شراء ما يكفي من الطعام لأطفالهم بينما يحصل الآخرون على ملايين الدولارات في حزمة إنهاء الخدمة هي ببساطة غير عادلة. لا تعني المساواة أن يصبح الجميع أثرياء، ولكن يجب أن يعني ذلك أن يكون كل شخص قادرا على تلبية احتياجاته الأساسية والعيش دون خوف من نكسة واحدة يمكن أن تضعه في الشارع؛ فالعدالة الاجتماعية أساس لضمان الاستقرار الاقتصادي للجميع.
بناءً على ذلك، غير مقتصرين على العدالة، فإن القيم التي جيء بها في ديننا قابلة للتطبيق في المجالات الحياتية والعلاقات الاجتماعية المختلفة أيا كانت نوعها مؤدية إلى نفس النتيجة، ومن هنا تنطلق فكرة ارتباط هذه القيم بجودة الحياة الاجتماعية التي ذكرت في مقالة النظام القيمي في الدين والمجتمع.
