فاطمة بنت ناصر
كتب الأستاذ عبدالرحمن السالمي مقالاً في مجلة التفاهم حمل عنوان (طريق الحرير الجديد وتجديد التواصل بين الإسلام والديانات السماوية). وكما يعلم الكثير منِّا فإن الصين تسعى حالياً لإعادة طريق الحرير في حملة ضخمة يرافقها تنمية للبنية التحتية للدول التي سيسلكها هذا الطريق وكذلك توفير آلاف فرص العمل لدول تعاني من البطالة وشح الفرص. وسلطنة عمان إحدى الدول التي رحبت وانضمت لهذا المشروع، غير أن علاقة عمان بطريق الحرير الجديد لم تستند إلى رغبات حديثة فالسلطنة كان لها دور في طريق الحرير القديم وقد سعت دوماً إلى إحيائه وإعادة بعثه ثقافياً. ففي عام ١٩٩٠-١٩٩١ كانت مبادرة صاحب الجلالة بتمويل منظمة اليونسكو لإعادة اكتشاف طريق الحرير عبر رحلة بحرية في سفينة (فلك السلامة) كان على متنها نخبة مكونة من علماء وصحفيين وباحثين توقفوا خلال الرحلة في ٢٧ ميناء، وإلى جانب هذه الرحلة البحرية نظمت اليونسكو رحلة برية بين إسطنبول - أكسيان/الصين وبين أوديسا/روسيا - كانتون/الصين. كما موّلت السلطنة في ٢٠١١ تنفيذ الموقع الإلكتروني لطريق الحرير الذي أشرفت عليه منظمة اليونسكو.
الطريق الذي لا يموت
مرَّ طريق الحرير بمراحل عدة بين نشاط لمساراته وهجر لطرقه ولكنه لم يكن يوماً طريقاً يحمل السلع فقط بل كان مساراً يحمل الثقافات المختلفة التي أثرت في بعضها البعض، لهذا فمن الصعب أن يموت. ومن أهم الوسائل التي ساهمت في بقائه وستسهم في استمراره، (الاقتباس) من حوارات الثقافات المختلفة ونشرها ونقلها. وفي هذا يقول رئيس الجامعة الدولية للبحر الأسود بمدينة تبيلسي ٢٠٠٣ إن الاقتباس "الطريق الوحيد لكي يتسامح الناس مع مختلف وجهات النظر والأفكار". ويضيف : " إن السبب الرئيس للنزاعات الحالية يكمن في أن البشر لا يتعارفون". وهذا كلام في محله فلطالما كان السفر وسيلة لتعارف النَّاس ببعضها ربما أكثر من نشاط الهجرة والاستقرار في الغربة؛ فالسفر يفرض عليك التعامل مع الأجناس المختلفة بينما الغربة قد يختار فيها الكثيرون الإقامة وسط جالياتهم الأمر الذي بات يؤرق الكثير من الدول الأوروبية حيث يشرع المهاجر في بناء الأسوار خوفاً على هويته من الآخر، فهو للأسف لا يرى في الثقافة المُغايرة ثراء له بل مصدر تهديد. فمن المهم من وجهة نظري أن يصاحب إحياءَ طريق الحرير خطابٌ ديني ومجتمعي يزيل ما علق في أذهان الكثير من خطابات شيطنة الآخر.
المشتركات بين الديانات الإبراهيمية وغيرها من الديانات
يعتقد البعض أن حوار الأديان والتقارب نعني به المسيحي - الإسلامي أو اليهودي- الإسلامي أو حوارا بين الشرق والغرب، ويندر أن نتصور الحوار بين الشرق والشرق وهو حوار لم يطل الاهتمام الذي حظي به الحوار بين الشرق والغرب. الأديان الشرقية الأصيلة كالبوذية والهندوسية والبرهمانية وغيرها تحمل الكثير من المشتركات مع الأديان الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك : احترام الطبيعة والبيئة وهي بذلك تلتقي فيما دعا إليه الإسلام من الحفاظ على البيئة حتى في أوقات الحرب، وهناك ابن عربي الذي كتب عن صحبة غير الأشكال وغير الجنس وهي علاقة الإنسان بالكائنات التي خلقها الله من دواب أو نبات، كما أن هناك قصصا من التاريخ العماني كقصة الإمام أحمد بن سعيد الذي سار يوماً طريقًا يبتغي سمائل فاستظل بظل دوحة كبيرة، وبعدها بمدة سار يبتغي نزوى وأراد الجلوس تحت ظل تلك الدوحة فرآها وقد جف أصلها وزال ظلها، ولكنه أصر على الجلوس عندها، وحين سئل عن سبب ذلك قال: إنما الحُر الذي لا ينسى الإحسان، فمن نسي الإحسان فليس بحر. فينبغي للحر ألا ينسى إحسان الناطق والصامت. وغيرها من القصص والعبر من تاريخنا العماني أو تاريخنا الإسلامي. ومن أوجه التقارب بيننا وبين الديانات الشرقية كذلك عزلة الإنسان مع نفسه والعكوف عليها ومحاسبتها وحثها ودفعها. وهذا الاعتكاف مع النفس موجود في تلك الأديان التي تعلي من الجانب الروحي كي لا يغرق في بحر لا قرار له من الماديات التي وقع الغرب بها، ونرى كثيرا منهم اليوم يتعلمون أساليب من الأديان الشرقية كاليوجا والتصوف للحصول على صفاء للنفس والذهن. غير أن الأحداث المؤلمة التي أصابت العالم رسخت فكرة الإسلام العنيف، واستغل الغرب الفرصة لمحاربة الشرق بتكريس هذه الصور. ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى أحياء القيم الروحية الداعية للسلم والتعايش مع العالم بكل كائناته ومكوناته.
حين تلتقي المصالح يزول الخلاف
إن الرؤية لمشروع طريق الحرير الجديد الذي تتبناه الصين لتعزيز التعاون بين الدول وفتح الأبواب التجارية بينها بعد عقود من الشقاق والقطيعة سوف يحل أكثر من مشكلة في وقت واحد. فهذا المشروع رغم أنه يركز على الجانب الاقتصادي وفتح الاستثمارات وبناء البنية التحتية لكل الدول التي يمر بها طريق الحرير إلا أنه في الوقت نفسه سوف يعزز قيم التعاون والتفاهم بين هذه الدول مما سيؤلف بين قلوب الأديان المختلفة لأن كلا منهم في خدمة الآخر. فالتاريخ يثبت أن التعاون والتكافل الاقتصادي صالح بين الديانات والكثير من الشعوب، كما أن التنافس وتعارض المصالح الاقتصادية ساهم كذلك في نشوء حروب قامت على أساس ديني وزرع في نفوس أتباع تلك الديانات الحقد والتباغض بينها. فلا عجب أن يرى الباحثون في إحياء طريق الحرير أملاً للتطور الاقتصادي والحوار الثقافي. ومن هؤلاء الباحثين فيكتوريا بليدسلاو Victoria Bledsloe التي ترى في طريق الحرير مجالاً للتفاوض الثقافي والتجاري معاً.
أمريكا والصين ونحن
لقد تحدث الأمريكان في مناسبات عديدة عن الأهمية التي يشكلها مشروع إحياء طريق الحرير، فهيلاري كلينتون تبنت خطة (طريق الحرير الجديد) وهي فكرة تقوم على أساس التعاون التجاري والتواصل الثقافي بين دول أرهقتها الحروب والتنافس مثل (أمريكا واليابان وأفغانستان والهند)، إلا أن المشروع الأعظم الذي نتحدث عنه اليوم ووضعت أحجار أساسه على أرض الواقع تتزعمه الصين وليس أمريكا. وقد تمكنت الصين بالفعل من ضم ٦٠ دولة لهذا المشروع الذي يعمل على مسارين: المسار البري والبحري لتربط هذه الخطوط حركات التبادل التجاري بين ٣ قارات: آسيا وأوروبا وأفريقيا. أما البشر الذين يستفيدون من هذا الطريق فيقدر عددهم بـ ٤ مليارات ونصف المليار. وعلى عكس أمريكا التي تلجأ في العادة إلى إجبار الشعوب على تبني خططها بقوة السلاح أو الفرض السياسي، تأتي الصين دون نية للفرض ولكن بالإغراءات كتطوير البنى التحتية للدول وتوظيف آلاف الشباب العاطلين وغيرها من المحفزات التي لم تحتج لسياسة الفرض. ففي الوقت الذي لم ير فيه العرب أمريكا إلا في دور يأخذ المال منهم، يجدون دولة عظمى تمنحهم السيولة المادية في ظل ضائقتهم الاقتصادية.
بدأ الإعلام الأمريكي بشيطنة المشروع واعتباره احتلالا اقتصاديا لهذه الدول، غير أننا في كل الأحوال علينا الاستفادة مما هو ممنوح لنا في هذه الفرصة والتركيز على دعم التبادل الثقافي ليواجه الجشع الاقتصادي.
