نحن والآخرون

عاطفة المسكري

تحدث الدكتور هشام خباش، وهو أحد الأساتذة الباحثين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله في المغرب، في مقالٍ له بعنوان "لماذا نحن كثيرو الاهتمام بما يفكر فيه الآخرون؟" حول الأهمية الكبيرة التي يلقيها الناس على مسألة تلقيهم القبول وسط الجموع التي يعيشون بينها. وأسهب خباش في ذكر التبريرات دون أن يشير بشكلٍ واضح إلى مجتمعٍ بحد ذاته، عدا أنني من وجهة نظر شخصية جدًا أعتقد أن هذه الأنماط من التفكير تتوالد في البيئة التي تركز على التفكير الجمعي وتعيره اهتمامًا أكثر من اهتمامها بالفردانية وما ارتبط بها من نمط حياة. ركز الدكتور خباش في سياق هذا الموضوع حول المحاولات الكثيرة التي جاءت بها الكتب والدراسات والتحليلات لفهم ما يفكر فيه الآخر لغايات ترتبط بالقبول المجتمعي.

أولًا، بالنسبة لأحد الأسباب الكامنة في محاولة فهم ما يفكر فيه الطرف الماثل أمامك تتمثل في قراءة أفكاره لإعداد ردود نموذجية وتوقع ردود فعل الطرف الآخر مسبقًا، وينطبق هذا الأمر على المصالح التجارية والمفاوضات في مختلف المجالات، وكذلك على مستوى العلاقات الشخصية البسيطة. وعندما نصبح قادرين على التنبؤ بخطوات الطرف الآخر قبل أن تحدث، فذلك يمنحنا شيئًا من السيطرة عليه بشكل غير مباشر بل والسيطرة على ردود الأفعال لصالحنا أحيانًا عبر قول ما يراد قوله وتفادي ما لا يجب قوله. إنّ القبول الاجتماعي مسألة مرتبطة بالفطرة البشرية، فمن البديهي أن يميل الأشخاص إلى البحث عن القبول في المجتمع من باب الشعور بالانتماء المرتبط بمسألة الهوية.

يعد هذا الأمر متشعبًا إذا ما تطرقنا للتفاصيل المرتبطة بالهوية التي تعد جانبًا مهمًا عند طرح مسألة الاهتمام بما يفكر فيه الآخرون تجاهنا على طاولة النقاش. ذكر الدكتور خباش في المبررات التي تقود الأشخاص لبذل الجهد في محاولة معرفة ما يدور في ذهن الشخص المقابل أننا قد نرى شيئًا من أنفسنا في الشخوص الماثلة أمامنا، فنحاول التنبؤ كذلك بالطريق الذي سنسير إليه مستقبلاً – حسب ما ورد في مقال الدكتور هشام خباش- إلا أنّ الأمر يبدو، من منظور شخصي، أنه مرتبط بغريزة البقاء والسيطرة كذلك. فعندما يشرع شخص ما في دراسة لغة الجسد والإيماءات ظنّاً منه أن ذلك سيساعده في معرفة ما يفكر فيه الأشخاص من حوله يتجاوز مسألة الفضول إلى فهم ما يفكرون تجاهه أو تجاه مسألة من المسائل التي تهمه، بالتالي إلقاء الأحكام ومعرفة حدود التعامل أيّاً كان مجال العلاقة سواء علاقة عمل أو في أطر العلاقات الشخصية. من زاوية أخرى تطرق الدكتور خباش إلى مسألة مهمة نجدها حاضرة وبقوة في المجتمعات التي ينقسم فيها الأشخاص إلى طبقات غنية ومتوسطة وفقيرة، حيث أشار إلى أنه كلما كان الأشخاص ينتمون إلى طبقات غنية قلّ اكتراثهم لنظرة الأشخاص لهم، ونستطيع أن نرى ذلك حاضرًا وبقوة في العادات المجتمعية والموروثات المكتسبة كذلك. كثيرًا ما نجد أن من ينتمون إلى الطبقات العليا يخالفون الموروثات دون خوف من نفْيهم خارج الإطار الجمعي ودون وقوعهم في ألسنة أفراد المجتمع كعصاة خرقوا أسسا ثابتة إلا ما ندر وبالخفاء أيضًا.

ويفسر الكاتب ذلك في أن الأثرياء وأصحاب الطبقة المخملية هم قليلو الحاجة إلى المساندة والدعم من قبل باقي الأفراد بل وعلى العكس، يلجأ إليهم الأفراد لتلقي الدعم منهم وبالتالي تنخفض لديهم الحاجة للشعور بالقبول المجتمعي المرتبط بمسألة تحديد الهوية. وينطبق ذلك أيضًا على الحاجة لفهم الآخرين والتنبؤ بما يفكرون فيه، فهم قد يكونون أقل حاجة لذلك، على عكس من هم أحوج لذلك في سبيل فهم الأشخاص وتحديدًا الشخص المناسب في المكان المناسب لتلبية أمرٍ ما في مصلحة طرف أو الطرفين معًا. من زاوية منطقية، يعد كل ما ذكر واقعيًا بالمرة، ولكن من الجدير أن نتساءل في هذا السياق حول قدرتنا الحقيقية من ادّعائنا القدرة على فهم ما يدور في الأذهان حقيقة!!؟ لأنّ المسألة ليست ببساطة تعلم لغة الجسد والإيماءات وتطبيقها على الجميع وتفسيرها بطريقة جامدة؛ فالبشر على قوة تشابههم إلا أنهم مختلفون، ناهيك عن الخلفية التي جاءوا منها والتي تؤثر بشكل كبير على سلوكياتهم وتصرفاتهم بما فيها لغة الجسد والإيماءات.

فمن المعروف أن بعض الثقافات تعتبر بعض الإيماءات طريقة للتعبير عن السعادة أو شكلا من أشكال الترحيب بالناس، وبعض الثقافات قد تعتبرها حركة غير مقبولة وهلمّ جرًّا. إن مسألة التنبؤ بالأفكار والسعي نحو القبول المجتمعي، أعتقد شخصيًّا أنّها مرتبطة بغريزة البقاء لدى البشر أكثر من أيّ أمرٍ آخر، وما عدا ذلك قد تكون بعض الاجتهادات الشخصية للتميز على الصعيد المهني أو التجاري أو الاجتماعي، ومع ذلك فهي تتداخل مع مسألة اهتمامنا وتفكيرنا بما يفكر فيه الآخرون عنّا، حيث لا يستطيع أن يعبر الآخرون بما يشعرون به نحونا بشكلٍ صريحٍ أحيانًا لأسبابٍ كعدم سهولة الإدلاء بالرأي في بعض المواقف ومع بعض الأشخاص، ولكن تعكس لغة الجسد لديهم ما يحاولون إخفاءه دون قصد. أما عن مسألة البحث عن القبول فهي طبيعية إذا ما لم تتجاوز الحد الذي يفضّل فيها الفرد القبول الجمعي على شعوره بالرضا والاكتفاء داخليًا، فالتصالح مع الذات لا يعد ترفًا بل يعد أساسًا يتحتم عليه سير العديد من الأمور بطريقة صحيحة، فهذه هي الإشكالية الحقيقية في كوننا نهتم بآراء الآخرين حولنا حيث أنها ليست حول ما إذا كنّا مهتمين أم لا، ولكن هل يطغى هذا الاهتمام بالآخرين على حساب أنفسنا وتصالحنا مع ذواتنا؟ فإذا كانت كذلك، فهُنا تكْمن العقدة التي يجب إيجاد حلّ لها بأن يتم تقديم الخيارات الفردية على التوجهات الجمعية بما لا يتعارض مع الأسس التي نشأ عليها الفرد شرط أن تكون من الثوابت لا المتغيرات والموروثات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

 

 

 

أخبار ذات صلة