أمجد سعيد
الشرارة التي أشعلها أنور عبدالملك في عام 1963م، والتي ظهرت على شكل مقالة في دورية ديوجين ولدّت لهباً لا ينطفئ في أذهان العرب الدارسين خارج الوطن وداخله في مسألة الاستشراق، ودراسة الاستشراق والمُستشرقين، متلمسين ما أضافوه إلى حقول المعرفة بالحضارة العربية الإسلامية معترفين بمنجزات بعضهم ومعترضين على مداخل الآخرين. ولهذا كانت مقالة أنور عبدالملك تنبئ ضمناً بما يعلنه لاحقاً مؤتمر المستشرقين المنعقد في باريس سنة 1973 عن موت الاستشراق واستبداله بالعلوم الإنسانية المرتبطة بمسألة الشرق.
في مقالته المعنونة بالاستفهام التالي: هل من دور للاستشراق الألماني في تلبية الرغبات الاستعمارية؟!، يقودنا الدكتور عبدالحميد ناصف للاستدراك بأنه ليس من مهماتنا أن نفعل مع الاستشراق ما فعله الذين مجدوا المستشرقين ولا أن نتعرض لهم بالتسفيه بالاستناد إلى مواقف غامضة، أو عرض الاستشراق من منظور ديني بحت يقوم على أساس اتصاله بالتبشير والاستعمار في كل ما أنجزه، أو كما فعل اللاحقون الذين درسوا الاستشراق بوصفه إحدى حركات التطور في الدراسات العربية التراثية. ومن الأعلام الذين قاموا بهذا الدور المتين وتحملوا مسؤوليته الأستاذ رضوان السيد الذي أعاد قراءة الاستشراق بعد مرور نحو ثلاثة عقود منذ القراءة الأولى في دوريته "الاجتهاد" وفي كتابه "المستشرقون الألمان". ولعلنا الآن نلتمس مدى سيطرة الاستسهال المتفشية في مجتماعتنا العربية على الوعي الجمعي لينزلق الكثيرون إلى تبني نظرية المؤامرة التاريخية، تلك النظرية التي لا تلتفت إلى شبكة المصالح البشرية المتعددة والمتنوعة والمتناقضة أحياناً، وإنما تختزل هذه الشبكة في خيط واحد وهو عداء الآخر للأنا. وفي هذا السياق ينظر إلى حركة الاستشراق على كونها تابعة لسياسة الغرب الاستعماري الرامية إلى الهيمنة على ثقافتنا العربية الإسلامية ودمجها دمجاً غليظاً بالمشروع الحداثي لأوروبا وبينما تعبر هذه النظرية عن مشاعر الاستعلاء التي مصدرها الإيمان بأننا فوق الجميع، تعبر أيضا عن أحاسيس مضمرة بالدونية نتيجة كوننا مجرد موضوعات للدرس من قبل الآخر المختلف. الحقيقة أنَّ هذه المشاعر والأحاسيس لا تخدم واقعنا الثقافي لا من قريب ولا من بعيد، والدليل على ذلك هو أننا عندما كنَّا منتجين ومصدرين للحضارة إبان عصور نهضتنا لم نكن نفكر ولو للحظة في أننا نتآمر على الغير ولا الغير قد فكر في ذلك بل سعى للاستفادة التامة من معارفنا وأخطائنا ليتقدم ويتطور وينطلق في مجال الإبداع.
عندما سُئل إدوارد سعيد، لماذا غاب الاستشراق الألماني وهو فرع مهم في الاستشراق الغربي؟ هل لأنَّ ألمانيا لم تدخل في عداء مباشر مع العرب، إذن لم يعرف العرب الاستعمار الألماني؟ أجاب إدوارد سعيد: " لاحظت أنَّ بداية الاستشراق الحديث كانت وليدة القوة الاستعمارية المادية. استعمروا أراضي الشعوب وحصلوا على نصوص شرقية لم يحصل عليها الألمان إلا بواسطة الفرنسيين والإنجليز. إن الاستشراق الألماني ظاهرة ثانوية مما يعني أن العلماء الألمان كانوا تلامذة سلفستر دي ساس الذي كان أستاذ اللغة العربية بالكوليج دو فرانس، وكان انتساب الاستشراق الألماني للاستشراق الفرنسي انتسابا مباشرا. كل المستشرقين الألمان هم تلامذة دي ساس، والاستشراق الألماني الذي لعب دورا مهما في تطور الاستشراق لم يكن أبدا قريبا من سلطة الدولة على الصعيد العالمي حتى إنه كظاهرة داخلية لم يكن دائما مدعوما من طرف الدولة. يجب أن نقول إن العلماء الألمان بالمقارنة مع العلماء الفرنسيين والإنجليز لم يكونوا أبدا عملاء استعمار".
يشرح السيد جيرنوت روتر هذه المسألة من زاوية أخرى، عندما قال إن الاستشراق الألماني قد تجاهل بعد الحرب العالمية الثانية الشرق الأوسط الموجود على أرض الواقع تجاهلا تاماً ولم يشعر بأن مادته العلمية قد صارت جزءا من النقاشات المحتدمة بين صفوف الطلبة المتمردين وكان هذا التجاهل يعود إلى أسباب علمية وتاريخية عامة، ومن ناحية أخرى يشير إلى ظاهرة سياسة تاريخية اختصت بها ألمانيا دون غيرها من الدول. فخلافا لبريطانيا وفرنسا لم تتورط ألمانيا بنحو مباشر في ممارسة الدور الاستعماري في العالم العربي. أي أن ألمانيا لم تشعر بوجود ضرورة تحتم عليها الاهتمام بالعالم العربي المعاصر بقدر اهتمام فرنسا وبريطانيا به. ومن هنا لم تنشأ مراكز بحثية على غرار مدرسة الدراسات الشرقية في لندن أو مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس، وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى وإن أخذنا بالاعتبار أن ألمانيا قد خطت خطوتها الأولى بهذا الاتجاه حينما أسست معهد اللغات الشرقية في برلين ومهد هامبورغ المختص بمسائل الاستعمار.
يجري الاعتقاد دائماً في كل الدوائر الثقافية العربية أن الاستشراق مقرون بالاستعمار والتبشير، فهو بهذا المعنى صدر عن مواقف تتصل بتكوين مؤسسات ساعد على نموها كل الذين عملوا في الاستشراق، فالاستشراق قرين الاستعمار لأنَّ عصر الاستعمار اعتمد على أولئك الرجال الأوروبيين الذين أوغلوا في معرفة العربية والشرق فساعدوا على تكوين المؤسسات الاستعمارية بالرأي والمشورة. وصحيح أن يقال إنَّ الاستعمار في تسلطه استعان بالاستشراق ليكون نافذة آمنة بالنسبة لتحليل ما يريد تحليله من أوضاعنا العربية وهذا وحده يفسر لماذا كان النفوذ الاستعماري الأوربي شديداً على الأرض العربية، وهناك ثلاثة أنواع للمستشرقين استنبطهم المجتمع العربي وميزهم لتكرار هذا النمط السائد ولتأكيد فكرة تواطؤ الاستشارق مع الاستعمار وأول هذه الأنواع هم الموظفون الرسميون في دوائر الاستعمار، مثل وزارة الاستعمارات البريطانية، وأيضاً مستشارون رسميون في دوائر الاستعمار مثل المخابرات البريطانية والفرنسية والألمانية، وهم متخصصون في الدراسات الشرقية، وأخيرًا هم المستشرقون غير الرسميين وفي دوائر غير رسمية استعمارية بل كانوا أكاديميين.
وعليه فمازال ملف الاستشراق مفتوحاً، ويبدو أنه سيبقى كذلك. ومازال النقاش محتدماً حول الأصول التاريخية لحركة الاستشراق وتطورها وأهدافها ومراميها وعلاقتها بالفكر والمخططات الاستعمارية ودعمها ومساندتها له على التوغل في الجذور الشرقية وبالأخص العربية.
