المدينة الفاضلة للفارابي: بين الفلسفة وعلم الكلام

ناصر الكندي

تتَّسم الفلسفة الإسلامية غالبًا بعلاقتها الودية مع النصِّ القرآني، ووضع مقولات الفلسفة اليونانية في خدمة هذا النص. وأسفرت هذه العلاقة عن علمٍ جديد سُمِّي بعلم الكلام وهو يقترب -نوعًا ما- مع ما فعله توما الأكويني عند مقاربته المسيحية بالأرسطية خلال القرون الوسطى. وعليه ينبغي على دارس النصوص الفلسفية الإسلامية أنْ يستحضرَ هذه الحقيقة عند التعرُّض لها؛ وذلك لأنه سيواجه تباينا معتبرا بين الهيكل الفلسفي اليوناني ونظيره الإسلامي في عملية التنظير للمبادئ والقضايا. ولأجل ذلك، ينطلقُ الكاتب أولريش رودلف في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- بعنوان "الفارابي وأصول الدين، تأملات في كتابه (مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة)" في قراءته لهذا الكتاب من خلال هذا الاستحضار.

 

يُشير الكاتب رودلف إلى أنَّ كتاب "مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة" يعد أحد أشهر أعمال الفارابي، وتم نشره أول مرة عام 1895م، ثم أعيد طبعه مرات عديدة إلى مختلف اللغات الأوروبية. ويقول الكاتب بأنَّ الكتاب لم يتم تناوله بالطريقة التي تليق به إذ حُصر أحيانا في الجانب السياسي وفشل العديد من الباحثين في النظر إليه كعمل فلسفي بالدرجة الأولى؛ لذلك سيتناول المقال هذا الكتاب في ثلاثة مباحث: عنوان الكتاب وبنيته والعديد من المواضيع المنتقاة. ويصر رودلف على أن الفارابي ألّف "المبادئ" بعناية خاصة؛ إذ عكف عليه وبوَّبه وحرَّره وجمعه ورتبه.

وفي "عنوان الكتاب"، ينبِّه الكاتب إلى أن كتاب الفارابي لا يُذكر عادة عنوانه الكامل، فهو قد يُشار إليه بعنوان "المدينة الفاضلة"، أو "المدينة الفاضلة للفارابي". وربما بسبب هذا الاختزال في العناوين شجَّع على أن يُنظر إليه على أنه فلسفة سياسية وليس فلسفة خالصة. والحق أن الفارابي في كتابه لا يشير إلى وصف مدينة نموذجية أو مثالية، بل كان تفكيره منصبًّا على وصف ما يعتقده أهل المدينة في جملة من المواضيع، فهو يستخدم لفظ "رأي" وهو أقل من المعرفة الحقة. لهذا رأى العديد أن كلمة رأي أقل قيمة من آرائه الفلسفية. ولكن هذا النص لا يتضمن آراء فقط، بل هناك لفظ آخر وهو "المبادئ"، وهو يتناسب مع معايير القول الفلسفي.

ويتحدَّث الكاتب في "بنية الكتاب" عن هيكل كتاب الفارابي؛ فالفارابي أنتج نصًّا موصولا ثم قسّمه إلى 19 بابا، وعاد بعد ذلك ووضع قِسمة أخرى إذ قسَّمه إلى ستة فصول إضافية؛ هي: الموجود الأول، ومراتب الموجودات (عالم ما فوق فلك القمر)، وعالم ما تحت فلك القمر، والنفس البشرية، والمدينة الفاضلة، وآراء مضادات المدينة الفاضلة.. وفي الحقيقة، يُثير هذا التقسيم أسئلة مهمة: فيما يبحث الفارابي بالذات؟ وما هي الغايات المعرفية التي كانت تدور بخلده ويتغيّاها؟ وما هي البواعث أو النماذج التي حركته لاختيار بالضبط هذا الضرب من المواضيع؟

يُعلّق الكاتب بـأنه من الصعب إيجاد إجابات لذلك؛ لأنه لا يعالج موضوعا خاصا، ولا فرعا من الفلسفة، ولا يراعي التمييز الشائع بين الفلسفة النظرية والعملية. ولكن قد تكون إجابات يقترحها ريتشارد فرانك حين يقول بضرورة العودة للتقليد الكلامي الذي يبحث فيما يُسمى بـ"أصول الدين"؛ إذ يبدو أنَّ هناك نوعا من العلاقة بين بنية المبادئ وتركيبة موضوعات أصول الدين، ويكون ذلك بالعودة لنصوص معاصرة؛ مثل: أبي الحسن الأشعري (ت 324 هجري- 944 ميلادي). فقد احتوى كتاب الأشعري "اللمع في رد أهل الزيغ والبدع" مواضيع قريبة من بنية كتاب الفارابي، وهناك كتاب آخر للماتريدي (ت333 هجري-933 ميلادي) عنوانه "التوحيد" له نفس بنية كتاب الفارابي أيضا. إضافة لكتاب ثالث عنوانه "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" للجويني (ت 458 هجري- 1085م).

وللفارابي أيضا كتاب آخر عنوانه "حجة الملة" رُبَّما يعد مدخلا مهما لتفسير كتابه عن المدينة الفاضلة. ففي كتابه يدل على أن هناك تعالقا شديدا أيضا بين الأعمال الفلسفية والكلامية، فهو يذكر أنَّ آراء أهل الملة نظرية ومنها إرادية. وتنتمي الأولى إلى وصف الله وخلق العالم وبنيته وخلق الإنسان. بينما تشمل الأخرى موضوع الأنبياء والملوك والرؤساء والفجّار وأهل الضلال، وتتصف الأولى بصلتها بالحق مباشرة والثانية صلة بمثال الحق فحسب.

ويتطرَّق رودلف إلى المواضيع الكلامية في المبادئ في مِثَالين: الأول عن توصيف الموجود بأنه عقل ومعشوق أول، إلا أنه على مدى الحجاج الطويل يصعب ربطه بالتقاليد الفلسفية. والمثال الثاني عن تشابهات علم الكلام وبوصف عميق للمدينة الفاضلة، وهذا له ميراث فلسفي مع جمهورية أفلاطون، ويتكلم فيه عن الضلالات المتبعة في المدن الجاهلة، وأن الذين يحيون في المدينة الفاضلة يشعرون بالسعادة. وهنا كذلك تجد صعوبة في ربط هذا المثال بالتقليد الفلسفي؛ إذ إن علم الكلام يصنّف جماعة دون أخرى بالضلال والخروج من الملة.

ويختتم الكاتب في نهاية مقاله مُؤكِّدا على أنَّ عمل الفارابي هو عمل فلسفي وليس علم كلام، إلا أنه سعى للتعامل تعاملا شموليا مع موضوعات وتحديّات مستمدة من المنظومة الكلامية.

أخبار ذات صلة