ناصر الحارثي
يسعى محمد العضراوي في حديثه حول "نظرية التدبر القرآني والنسق التأويلي والمقاصدي" إلى الحديث حول أحد أهم المواضيع المتعلقة بالنص القرآني، وذلك من خلال التطرق إلى محورين أساسيين وهما موضوع التدبر وموضوع التأويل، ليسرد في ورقته أهم الأقوال والآراء حول معاني ودلالات كل من التدبر والتأويل في النص القرآني وعلاقتهما بالمتغير الزمكاني.
إنّ قضية فهم النص القرآني تعتبر إحدى القضايا الشائكة في واقعنا المعاصر وذلك لوجود عدد من المدارس الفكرية التي تؤسس رؤيتها وتوجهاتها اعتمادا على طريقة تعاملها مع النص القرآني، فهناك المدرسة السلفية وهي التي تؤمن بأنّ فهم السلف للنص القرآني هو الركيزة الأساسية لمعالجة قضايانا المعاصرة وأنّ هذه الإشكاليات ما هي إلا نتيجة الانحراف عن الفهم السوي للنص القرآني ومحاولة لتمييع معاني النص القرآني، في حين هناك ثلاث مدارس فكرية مختلفة تشير إلى وجود إشكاليات جمة في تعاملنا مع التراث الإسلامي، وأنّ هذا النص قاتل لروح الإبداع والتجديد، ولكنّها في الآن ذاته تنقسم إلى مدرسة تسعى إلى إعادة فهم النص القرآني وتأويله بما يتناسب مع الواقع، وهذه المدرسة تتميز بأنّها تحاول كسر جمود التراث وإعادة قرآة التراث بطريقة مختلفة تلامس روح الواقع ولكن منتقديها يعتبرونها محاولة بائسة من خلال تحميل النص ما لا يحمل ولا يحتمل من التأويل، إذ ترى مدرسة أخرى بأنّ النص القرآني نزل في ظروف زمانية ومكانية مستندة إلى مصطلح تاريخية النص ومشيرة بأنه علينا ألا نحمل الأحداث والسياقات في النص القرآني معاني تخرج عن واقعها الذي نزلت فيه، في حين أنّ المدرسة الأخيرة تعتبر أنّ النص القرآني منتج ثقافي وعلينا أن نعطي هذا المنتج كل احترام خاصة وأنّه أحدث منجز حضاري ضخم بكل تفاصيله المعرفية والاجتماعية ولا نزال نلامس أثره إلى يومنا هذا، ولا يمكن أن نجد حلولا لمشاكلنا المعاصرة إلا بالتقليل من هيمنة هذا المنتج الثقافي لأنّه ما عاد صالحا لواقعنا المعاصر، وفي خضم هذا التباين الكبير حول التعامل مع النص القرآني يأتي هذا المقال، والذي يتبنى إلى حد كبير رأي المدرسة الثانية حيث وصف الكاتب التدبر القرآني بأنّه استثمار لجدلية النص الشرعي والواقع وذلك في إطار حاجات الإنسان للمعنى الشرعي للمتغيرات الطارئة على الأحداث في التاريخ؛ فنظرية التدبر استثمار مجموع قوانين نظمية ومعرفية وسنن تاريخية وحضارية بمنطق اجتهادي استكشافي من أجل تحقيق مقاصد شرعية منظمة للاستخلاف الإنساني والعمراني والبشري. ويضيف الكاتب بأنّ التدبر هي نظرية تعمل على إنزال كتاب الله المسطور أي القرآن في كتاب الله المنظور أي الكون، وهو ما يعني إنزال المفهومات إلى الواقع الإنساني وفق السنن الشرعية والكونية والتاريخية، وهنا يقصد الكاتب بأن التدبر هو عملية معرفية منطلقها الوحي وأدواتها العقل وواقع العصر والنص، فالتدبر عملية حفر للنص من أجل إيجاد فهم أعمق يتجاوز المنظور السطحي والفقهي للنص، فالنص هنا فاعل كأساس المعرفة، ومتفاعل كإحدى وسائله، ويأتي هذا المعنى التفاعلي التكاملي انطلاقا من الاعتقاد بالرؤية الكونية للقرآن الكريم كما يسميها طه جابر العلواني ويقول فيها : "رؤية لا يصل فيها من لا يدرك إطلاقية القرآن وأنه لا صلة بينه وبين النسبية والاحتمال بحال، وما ينبغي أن يسقط عليه شيء منهما والقرآن بإطلاقيته قد استوعب الكون المطلق وحركته بشكل موضوعي، فما ترك جانب من جوانب الخلق الإلهي لم يتناوله ولم يعطه التفسير المناسب من عالم العهد حتى عالم الجنة والنار، كما استوعب الإنسان المطلق من حيث إنسانيته"، ونجد في الاسترشاد إشارة واضحة إلى هيمنة النص القرآني على علوم الدنيا وأن القرآن كتاب شامل كامل، وبطبيعة الحال لا يقصد كل من طه العلواني ولا الكاتب أن القرآن كتاب شامل لكل العلوم الدنيوية والأخروية بل بمعنى أنه مرشد وموجه إليها، ونجد أن هذه النظرية التي تبناها الكاتب توازن بين الفهم السلفي للنص القرآني وبين المدارس الفكرية الجديدة التي تدعو إلى تبني فهم جديد يتناسب مع متغيرات الواقع، ونجد أن التنظير الذي أتى به الكاتب حول التدبر القرآني وآلية التعامل مع النص القرآني يفتقر إلى نماذج حية في فهم النص القرآني فهي نظرية سردها الكاتب بلا نماذج واقعية يمكننا الاسترشاد بها. وتكمن أهمية النماذج في أن الصراع في الخطاب الديني لا يكمن في مسألة التنظير بحجم الخلاف عند ذكر أمثلة ومحاولات جديدة لفهم النص القرآني.
إن التدبر القرآني من ناحية المصطلح هو مطلب رئيسي في معظم الخطابات الدينية وذلك لأن الآيات القرآنية جاءت مرشدة إلى التدبر إذ يقول عز وجل "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"، وفي سياق آخر " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)"، وأيضا "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"، ولكن هناك ألف سياج يصنع للمسلم في مسألة التدبر؛ إذ يعتقد عامة المجتمع الإسلامي أن مفهوم التدبر حكر على مجموعة محددة من المسلمين رغم أن الآيات جاءت مخاطبة جميع المسلمين في مسألة التدبر، وأما سبب تكون هذا المفهوم هو أن الخطاب الوعظي حرص على استخدام مسألة التدبر في الوعظ والإرشاد الديني والترغيب والترهيب. أضف إلى أن التدبر يقتضي في الآن ذاته فهم القرآن ومعرفة القرآن بل الفهم العميق، وهو ما لا يصح أن يقوم به عامة الناس، فلو قام به عامة الناس فلن يكون للخاصة من العلماء وأهل الوعظ والحديث من أهمية كبرى، ولذهبت عنهم تلك القداسة والهالة التي يمنحهم إياها الناس؛ لأنهم أكثر فهما ووعيا بنصوص الدين. لذلك صنع الخطاب الديني عدة شروط في مسألة التدبر وهي الفهم الواعي للقرآن وللأحاديث وللغة العربية وللفقه والعقيدة الصحيحة، ووجود هذه الشروط يجعل مسألة التدبر عملية غير ممكنة لمعظم الناس. وبالتالي نجد في واقعنا المعاصر يتعامل عموم المسلمين مع القرآن بأنه كتاب للقراءة، واقتصر مفهوم الذكر والتدبر على قراءة الآيات، أما خطباء المساجد فيتلخص التدبر عندهم في الوعظ والترغيب والترهيب، وأما علماء الدين ففي التفسير من خلال سرد أقوال المفسرين. وإن كان التدبر في عمومه محمودا، فإن التأويل يتأرجح بين الحمد والذم؛ وذلك لأن الآيات القرآنية ذكرت التأويل في سياقات تختلف عن ذكر التدبر، إذ يقول الله في محكم كتابه العزيز: " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) ". لذلك جاءت الآراء متابينة في مسألة التأويل بين من يعتقد أن التأويل لا يكون إلا من عند الله ومن ألهمه الله هذا العلم، في حين يرى البعض بأن التأويل خاص بأهل العلم من سلف الأمة، في حين وضع العلماء من الشافعي إلى الشاطبي شروطا في التأويل، في حين أن مدرسة العرفان الصوفية سعت إلى فتح آفاق واسعة في مفهوم التأويل القرآني.
