فيصل الحضرمي
في مَقاله الذي حمل عنوان "إشكالية السيادة العليا في الدولة بين الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي الحديث" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- يُناقش عبدالقوي حسان الباحث في قضايا الفكر الإسلامي وشؤون الحركات الإسلامية، مصدرية السيادة، ودلالات مفهومها، في الفكرين السياسيين الإسلامي والحديث.
ويستهلُّ الباحث مقاله بالإشارة لنوعين من السيادة؛ أولهما: سيادة الدولة؛ وتتمثل في نشاط السلطة السياسية الداخلي وعلاقتها بالأفراد والجماعات التي تأتمر بأمرها، كما في نشاطها الخارجي من حيث تمتعها بقدر من الحرية في إدارة شؤونها الخارجية دونما امتثال لإرادة دولة أخرى. وثانيهما -والذي هو موضوع المقال- ما يُعرف بالسيادة في الدولة، وهو مصطلح صكه المفكر الفرنسي جان بودان في كتابه "ستة كتب عن الجمهورية" (1576)، وفيه يعرف السيادة بأنها "سلطة عليا على المواطنين والرعايا، لا يحدها القانون". وبودان يفرق بين السيد والحاكم من حيث السيادة، فالأول سلطته دائمة، في حين أن سلطة الثاني مؤقتة، إذ هو مجرد مكلف بإنفاذها.
وقد أكد الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز على سمو السيادة فوق كل الشعب؛ فهي "تحكم المجتمع السياسي كله من مكانها ذاك؛ ولهذا السبب فإن هذه السلطة تكون مطلقة، ومن ثم غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها، بدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض". ومن المساهمين في نظرية السيادة أيضاً الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ففي كتابه الشهير "العقد الاجتماعي"، طرح روسو مفهومي سيادة الأمة، وسيادة الشعب، ذاهباً إلى أن السيادة "ليست سوى ممارسة الإرادة العامة، فإنه يمتنع أبداً عن التنازل عنها، وصاحب السيادة ليس إلا موجوداً جماعياً، لا يمكن أن يمثله أحد، عدا أن يمثل هو نفسه بالذات". أما المفكر التونسي راشد الغنوشي فقد عد السيادة مفهوماً أساسياً في الدولة الغربية، إذ هي سلطة تشريعية لا تعلوها سلطة أخرى، وصاحب هذه السيادة هو الحاكم الذي تخضع له السلطات الأخرى.
بعدها، ينتقل كاتب المقال للحديث عن السيادة في الفكر السياسي الإسلامي، ويشير إلى تيارين متمايزين في تنظيرهما للسيادة؛ أحدهما يتسم بمرجعيته الإسلامية، وينضوي تحته توجهان اثنان: تقليدي وحداثي، أما التيار الثاني فهو علماني حداثي النزعة، بمرجعية مدنية تفصل الدين عن الدولة.
صب التيار الإسلامي اهتمامه على مسألتي نظام الحكم، والسيادة، أو الحاكمية كما تعرف في المفهوم الإسلامي. وممثلو هذا التيار يستندون إلى الآية "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ليس فقط في القول بأن الله هو وحده المشرع، بل إنَّ السلطة الحقيقية في الدولة هي لله وحده بحسب أبي الأعلى المودودي، أحد أبرز منظري التيار. أما الدكتور عبدالحميد متولي فإنه ينتقد نسبة مبدأ "سيادة الأمة" إلى الإسلام؛ إذ هو في رأيه من ابتكار فقهاء القانون الفرنسيين، الذين استخدموه في عصر ما قبل الثورة الفرنسية ضدًّا على مبدأ سيادة الملك الذي كان سائداً حينها ولم يعد له وجود اليوم، إذ إنه كان يستند إلى نظرية "الحق الإلهي" التي ولى زمانها، ولم يعد لها مكان "إلا في متحف آثار تاريخ المذاهب والنظريات السياسية" بتعبير متولي. في حين أن الشيعة الاثني عشرية يقولون بوجوب عصمة الإمام؛ إذ قوله قول الرسول، وطاعته والتسليم له واجبان. والدولة لديهم أشبه بالدولة الدينية الثيوقراطية كما في إيران مثلاً.
من جهته، فقد ارتأى التوجُّه الإسلامي الحداثي أن يجعل السيادة لله أو الشريعة، ويمنح السلطان للشعب أو الأمة، في محاولة منه لتطوير مفهوم الحاكمية. وفي هذا الشأن يقول الغنوشي: "دولة الإسلام هي دولة الناس، الذين يجتهدون فيصيبون ويخطئون عبر الشورى المتخصصة، والشورى العامة التي تجعل الحاكم مجرد خادم للشعب ووكيل عنه". والدولة عند الغنوشي والقرضاوي وبقية ممثلي هذا التوجه هي دولة مدنية يسود بها قانون يساوي بين جميع المواطنين، أياً كان معتقدهم وجنسهم، والفرق الوحيد بينها وبين الدول الديمقراطية المعاصرة هو مرجعيتها العلوية المتمثلة في الشريعة.
أمَّا التيار العلماني، فإنه يرتكز على القول بأنَّ الشعب هو مصدر السلطات جميعها بما فيها سلطة التشريع، وهو مبدأ يستند إلى تساوي أفراد المجتمع أمام القانون، وانطلاقاً من هذه المساواة تصبح السلطة شأناً يخص الجميع، ولا تكون عائدة إلى فرد أو جماعة دون بقية المجتمع. ويرى الكاتب أن العلمانيين العرب -ليبراليين واشتراكيين- متفقون على دنيوية الشأن السياسي، وعلى عدم جواز تدخل رجال الدين فيه، ومن هنا مطالبتهم بالفصل بين الدين والدولة. وبحسب الكاتب، فإن المفهوم الليبرالي للدولة قائم على مفهوم القانون الطبيعي، الذي يعني إعطاء الشعب حق التقنين، كما لدى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي ذهب إلى أن "سلامة الشعب هو السنة العليا، مبدأ عادل أساسي لا يضل من أخذ به بأمانة قط".
ولا يفوت الكاتب أن يتطرق إلى مصدر السيادة في كلا الفكرين السياسيين: الإسلامي والحديث؛ فالأول يرجع السيادة لله وحده، حاصراً دور الإنسان في البناء على الشريعة والاجتهاد انطلاقاً من مبادئها وثوابتها، أما الثاني فيرجعها للشعب استناداً للقانون الطبيعي، أو أصول الفطرة الإنسانية. ويرى الكاتب أن منشأ الخلاف بين الفكرين عائد إلى اختلاف نظرة كل منهما للكون، ولنطاق سلطة كل من الذات الإلهية والإنسان فيه. فالنظرة الغربية قائمة على فلسفة أرسطو القائلة بخلق الله للعالم وتحريكه له، ثم تركه يسير حسب القوانين والأسباب التي أودعها فيه، أما وجهة النظر الإسلامية، فتعتبر الله خالق الكون ومدبره في كل لحظة، فهو دائم الخلق دائم التدبير، ومن هنا "حاكميته" في التكوين وفي التشريع.
ويختم الكاتب بالتأكيد على ضرورة توسيع دائرة الاجتهاد، واستيعاب آراء مختلف علماء ومفكري الأمة من كافة الاختصاصات، لكي يتحقق التجسيد الأمثل لـ"السلطة التشريعية". كما يدعو الكاتب الأحزاب والنخب السياسية إلى الأخذ بالاعتبار الأهمية التي يمثلها الدين في صناعة مستقبل الشعوب؛ فهو -بحسب رأيه- أهم أدوات التغيير الاجتماعي، وبدونه لا يمكن لهذه النخب والأحزاب أن تتجذر وتعبئ وتقنع، ولا أن تحوز القدرة على الحسم التاريخي.
