أمجد سعيد
في المقالة البحثية لمحمد الشيخ المعنونة بالدولة المستحيلة والدولة المستوردة، والتي تبحث في أصول الدول وماهية مؤشرات نموها، والتي تتضمن قراءة في كتابي "الدولتين" و"الدولة المستحيلة" لبرتران بادي وكتاب "الدولة المستحيلة لوائل حلاق، نجد أنَّ هنالك عرضا للواقع الغريب الذي تحياه الدولة بمفهومها الفضفاض، خاصة دول العالم العربي الإسلامي وهو وضع كما وصفه محمد الشيخ وضع منزلة بين منزلتين، وتتموضع الدولة في العالم العربي الإسلامي ما بين الدولة المستوردة والتي توحي بكثير من المؤشرات، تمردات انقلابات وثورات من هنا وهناك تفضي إلى فصل واقعي مرير، أما الدولة المستحيلة، فهي دولة طوبى حتى إن بعض القوى السياسية المحافظة تفشل في القدرة على تخيل ماهية تفاصيل تلك الدولة المستحيلة، ومن هنا نستعرض كتابي بادي، لنلخص مآزق الدولة في العالم العربي الإسلامي اليوم.
يقارب برتران بادي أنموذج الدولة العربية الإسلامية، قديماً وحديثاً من منظور علم الاجتماع وبالأخص من مبحث التنمية السياسية. ويريد لمقاربته هذه أن تتجاوز المقاربات الأحادية الوجه التي تبحث عن أوجه التشابه وتهمل الفروقات مهما قامت ووجدت. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يُريد بادي أن يتحدث، على خلاف بعض الباحثين، عن حداثات متعددة بلا قواسم مشتركة تجمع بينها، وإنما يلقي قبضته في الجزء الذي يتوسط الوحدة والتعدد. فمن شأن التعدد ألا يلغي التوحد. بل إن جميع النظم السياسية ما كانت لتتشابه، بل شأنها أن تتخذ أنماطاً مختلفة وطرازات متباينة؛ لكن من أمرها أيضًا ألا تتعارض كلية، إذ ثمة تقنيات سياسية مشتركة وعامة، كما أن ثمة إشكالية شاملة وهي إشكالية التحديث السياسي. ويراجع برتران بادي في كتاب الدولتين التصورات السائدة عن العصور الوسطى كما لو كانت هذه العصور قد سكنت تحت جمود سياسي رهيب، كما يراجع تلك الأنظار التي تذهب إلى أنَّ ثمة قطيعة تامة بين الحداثة السياسية وتلك العصور.
هنالك مقدمات أساسية بنى عليها برتران بادي تحليله لنظام الدولتين السياسي، ومن هذه المقدمات، ما من نظام سياسي إلا ويقوم لا على الانسجام والتواؤم بقدر ما يقوم على التوتر والصراع، وطبيعة هذا الصراع هي التي تؤدي إلى التحديث السياسي. ومن ثم فإنَّ من شأن التوتر أن يكون خلاقا، ومن شأن الدولة بمعناها الغربي ألا تكون سليلة مثل هذا التوتر، فقد توطدت الدولة في الغرب بفضل توتراتها الداخلية وهو الأمر الذي يميزها عن باقي الكيانات السياسية الأخرى كالإمبراطوريات والنظم الأبوية السيادية، التي سادت في غير الغرب" بينما تتغذى الدولة في الغرب من التحديات التي تواجهها، وتنمو على حساب المقاومات التي تحدثها، نرى أنها خارج الغرب تزداد ضعفاً أمام أدنى منازعة، وتتعرض للخطر حين تواجه أقل حمل إضافي، وتتعرض للسقوط أمام رفض التبعية لها".
غير أنَّ الحفر في هذه المقدمة، وبيان القطبين اللذين دار عليهما التوتر، يظهر اختلافاً بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية الحديثة، فيما تبنى عليه الدولة لاهوتيا؛ أي فيما يمكن أن نسميه لاهوت الدولة؛ فمن جهة أولى فإن الثقافة الإسلامية تنفي أي تفويض للإنسان بسلطة إلهية، ومنهم من يسمي هذه الثقافة ثقافة عدم التفويض. والنتيجة كانت المفارقة، فالتفويض المسيحي أدى إلى التمثيل ومن ثم بناء الدولة الحديثة، بينما عدم التفويض الإسلامي أدى إلى انتفاء فكرة التمثيل التي هي الركن الثاني للدولة الحديثة، فضلاً عن الركن الأول وهو السيادة. تأسيسا على هذه المقدمة يحلل برتران بادي طبيعة النظام السياسي في الحضارتين الغربية والإسلامية. يرى برتران بادي أنه إن كان من سمة بارزة تميز التاريخ الغربي؛ فإنها بلا شك سمة ابتداع حيز سياسي مستقل، وهذا هو منبع الدولة، وهو معين السياسية الغربية في القرون الوسطى. فما كان ثمة في تلك العصور ما يسمى حكم ثيوقراطي بالكامل، وإنما تحدد شيئا فشيئا حيز للممارسة السياسية، وفكرة استقلال الحيز السياسي هي فكرة خاصة بالمسيحية الرومانية من وجهة نظر برتران بادي، ولا يوجد لها أي معنى في العالم الإسلامي فيما بعد. وهكذا، فإنِّه حتى وإن كان المجال السياسي قدعُد في بعض الأوقات خاضعاً للمجال الديني، أو يكون في مرتبة أقل منه، فقد كان دائماً يتشكل في حيز محدد، ويحصل بهذه الخاصية على مؤسساته الخاصة وموظفيه المخصوصين.
بناءً عليه، يرى برتران بادي أنه من اليسير تبيان وجه التباين بين النظام السياسي في الغرب والنظام السياسي في الإسلام. ذلك أن التحديث السياسي امتزج في أوروبا مع عملية توترية تنازعية بطيئة لتحرير النظام الإمبراطوري؛ أي تحرير الحيز السياسي وهو الشرط الأساسي لنشوء الدولة إلى جانب تشكيل مجال عمومي خاص بالمجتمع المدني، بينما تكون الحيز السياسي في العالم الإسلامي تدريجيًا تبعاً للالتزام بإنشاء إمبراطورية(خلافة إسلامية) مرتبطة بعقيدة جديدة وبشروط تعميمها. وقد استلزم هذا النظام الإمبراطوري الذي يختلف عن نظام الدولة في تصور برتران بادي ويشكل نظاما سياسيا سابقا عن بناء الدولة وتحديا مزدوجا: تحدي التغلب على نظام سياسي مشتت تقليدي بين عشائر وقبائل، يحكمه من الأساس التوازن بين القبائل، وتحدٍ ثانٍ يتمثل في طبيعة جماعية طاغية لا تكاد تترك للفرادنية فيها مكانا، ومن ثم لا تترك حيزا لتفريد الصلات الاجتماعية نظيراً لذاك التفريد الذي شهد عليه تطور العالم الغربي.
