قيس الجهضمي
إن للمؤسسة الدينية دورا مهما في تنظيم الحياة العامة للمجتمع، وتوجيهه بما يخدم صالح الإنسانية، فكل دين وخصوصا ديانات التوحيد، كما يذكر رضوان السيد، هو "نص" و"تقليد"؛ فالنص هو الكتاب المقدس، والتقليد يتمثل في التجربة التاريخية لعلماء الدين من خلال تعاملهم مع النص والواقع؛ لذا يتناول السيد في مقاله "المؤسسات الدينية الإسلامية مشكلات التاريخ والحاضر وضرورات الإصلاح" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- دور المؤسسات الدينية التي تشكلت من خلال التقاليد الدينية "الفقهية" في الإسلام، ومشكلاتها ودورها في مسألة الإصلاح والتقدم في المجتمع؛ فالسيد يرى أن المؤسسة الدينية التي هي عبارة عن علماء وفقهاء يربطون بين النص وجماعة المسلمين في الواقع، وتكون إدارتها تطوعية أي أن التكليف القائم عليها ليس إلهيا، وإنما هو من جماعة المسلمين على حسب ما رأوا من هؤلاء الأشخاص من أمانة ودين ومعرفة، ثم أصبحت لهذه المؤسسة أعرافها وتقاليدها حسب احتياجات الناس، وبعد ذلك ارتبطت باحتياجات الدولة أيضا.
وقد أدى ضعف المؤسسات الدينية في الإسلام إلى أن يكون سببا من أسباب التفرق والانشقاق والتطرف، لأنها عجزت عن استيعاب الجديد ونفاذ صبر الناس على التهديد الاستعماري للدولة والدين، فظهرت دعوات قوية لإزاحتها من حياة الناس.
كما كان للتغييرات الحاصلة في النظام العالمي واستيلاء أوروبا الاستعمارية على معظم مناطق العالم، وقيام نظام الدولة الوطنية في المناطق الإسلامية، ثم ظهور جماعات الإحيائيات المتطرفة، سبب في محاربة التقليد الفقهي، وهو الذي قامت عليه المؤسسات الدينية، فهو لم يقدّم في مواجهة الاستعمار سوى فكرتين الهجرة أو الجهاد من خلال الموروث الفقهي، لكن في الواقع الذي أخرج المستعمرين هو الحركات الوطنية والنضال السياسي، ويذكر السيد أن الدول الوطنية التي قامت خارج المملكة العربية السعودية مرت بمرحلتين: مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال، ثم مرحلة الأنظمة العسكرية والأمنية، وأن العسكريين والتحديثين قاموا بتجريد المؤسسة الدينية من أكثر مواردها ووظائفها بحجة التحديث والتقدم.
وقد قام الكاتب بتنميط العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية في ثلاثة أنماط: الأول نمط الحفظ والاندماج في نظام الدولة مثل المغرب ومصر والسعودية، فالبنية انحفظت في النهاية ولو على ضعف في حين ظهرت تقاليد جديدة في المؤسسة الدينية؛ سواء من جهة الجماعة أومن جهة علاقتها مع السلطة، والثاني نمط الإضعاف والاستتباع، وقد ساد في بلدان الأنظمة الأمنية والعسكرية مثل سوريا والعراق وليبيا وتونس والسودان والجزائر؛ فالمؤسسة الدينية فقدت أكثر وظائفها وتعرضت لضغوط شديدة واستشرت الأصوليات فيها، وفي النمط الثالث نمط الحياد الودود، وقد ظهر في بلدان مثل عمان والأردن ولبنان وموريتانيا، ويخلص السيد إلى أنه في بلدان الحياد ما ظهرت حركات عنف قوية باسم الدين، وفي بلدان الإضعاف ظهر فيها عنف كثير باسم الدين، أما بلدان الحفظ والاندماج فظهر بصورة متوسطة.
لم تكن المؤسسات الدينية تملك أي مشروع سياسي؛ فهي سرعان ما انضوت تحت نظام الدولة الوطنية، فالمفكر الإسلامي محمد رشيد رضا كان يرى أن الإمامة من الفرعيات وليست من أصول الدين، وإنما أخذت صبغتها الدينية بسبب ارتباطها بالإسلام، كما يرى عبدالرزاق السنهوري لكي تكون هذه الدول الوطنية شرعية لا بد أن يكون نظامها القانوني قائما على الشريعة الإسلامية، وقد تبلورت عبر ثلاثينيات القرن الماضي فكرة استعادة الشرعية الدينية في المجتمع والدولة عن طريق التنظيم للجماعات الإسلامية ثم انتشرت في أوساط الشباب المتدينين، وقد مهدت لمقولة القائلين إن الاسلام دين ودولة ومصحف وسيف.
وتجلت منهجية استعادة الشرعية من خلال عمليات تحويل المفاهيم، كما اعتمدت على تأويليات جديدة تعتبر السلطة السياسية ركنا من أركان الدين بحجة أنها الوسيلة الوحيدة لتطبيقه، لكن هذه التأويليات قامت بإضعاف المؤسسات الدينية وسلبها الكثير من وجوه حجيتها ومرجعيتها، وقد سادت في العقود الأخيرة حركة الصحوة، فأصبح الإسلام اليوم ومنذ أكثر من عقدين مشكلة عالمية بما أفرزته الجماعات الدينية المتشددة من أفكار انتشرت حول العالم، فكان على مؤسساته الدينية ودوله مكافحة الإرهاب، وحلت محل التقليد الفقهي جماعات إحيائية أرادت تغيير المجتمعات والدول بمفاهيم جديدة، معادية للتقليد ومفارقة لنظام العالم الجديد في الوقت نفسه.
وكانت المؤسسة الدينية من أحد أسباب ظهور الجماعات الدينية المتطرفة، لذا فهي القادرة أيضا على نشر الاعتدال وتأمين المجتمعات القلقة منها، ومنع انتشار أجيال جديدة من معتنقي أفكار التطرف والعنف، والمؤسسة الدينية رغم ضعفها ما زالت تتولى الإمامة والمرجعية في أداء العبادات والتعليم الديني والفتوى والإرشاد العام كما يرى السيد، وهناك إجماع شعبي من ضمن السلطات أن هذه الأمور الضرورية للدين لابد أن تبقى ضمن صلاحيات ووظائف المؤسسة الدينية، لكن جرى تجاوز في هذه المؤسسات الدينية على الثوابت في العقيدة والعبادات في زمن الصحوة، وصار الفرد هو الحجة بدل الأحاديث والآيات، وحصلت انشقاقات على فتوى هذا وذاك.
ويذكر السيد أنه حصلت تحويلات مفهومية خطيرة باسم الدين، وتتلخص هذه التحويلات في ثلاث نقاط: الأولى اعتبار مجتمعاتنا فاقدة للشرعية لعدم تطبيقها للشريعة، والثانية هي ضرورة إقامة السلطة تحت اسم الخلافة أو الإمامة من أجل تطبيق الشريعة، وأخيرا استحضار الفريضة الغائبة وهي الجهاد بالداخل والخارج لإقامة هذه الدولة وإحقاق الشرعية، ويرى الكاتب أن كلَّ هذه المقولات هي انحراف خطير عن صحيح الدين وثوابته، وأن مواجهة هذه التحويلات المفهومية هي الواجب الأول للمؤسسات الدعوية، فهي خطر على الدين والمسلمين والمجتمع قبل أن تكون خطرا على الدول والعالم، وأن مصلحة الدين ومصلحة المجتمعات اليوم وغدا هي نزع الدين من سلطة الدولة والصراع عليها، ويرى أننا بحاجة لنقد المفاهيم وإخراجها من نطاق التطرف، ولا يتم هذا الأمر إلا بمراجعة المؤسسة الدينية لوظائفها ومهامها في جميع المجالات.
من وجهة نظري، أن على المؤسسات الدينية أن تحتضن الشباب العنصر النشط في المجتمع وتتفاعل مع عنفوانه في تسيير الأفكار البناءه للإنسانية، والقائمة على الوعي بمصالح المجتمع وظروفه بما يهيئ له الوصول للتحضر والتقدم؛ إذ يتجلى لنا أن الأفكار المتطرفة المستندة على الفهم التقليدي من خلال أيديولوجية الجماعة والتي تتدخل في كل مجالات الحياة لم تنبت لنا إلا التفرقة والشقاق، فحريٌّ أن تستغل الأفهام والطاقات في كل مجال في نطاقه الخاص وبفهم يخدم سياقه الحالي في الواقع، فللمؤسسة الدينية أن تتحكم في العبادات والشعائر الدينية لكن لا ينبغي لها أن تسيطر على مجالات العلوم التطبيقية في كل الحدود، والتي هي في الواقع جزء من قيام الحضارة.
