القراءات الحداثية للنص القرآني بين القبول والرفض

عبدالله  العلوي

تنوعت الخطابات المختلفة حول الحداثة في الثقافة العربية والإسلامية، وخلاصة فيما يتعلق بالحداثة في الخطاب الديني والتفاسير القرآنية، ويبدو أن هذه النظرة المتفردة منطلقاتها ناتجة من تأثر أمثال هؤلاء بالفكر الغربي للحداثة خاصة بعد العصور الوسطى التي تسمى عصور الظلام، والتي تخلصت فيها الثقافة الغربية من سيطرة الكنيسة على الحياة العامة، ووضع الأديان في موضع الثقافة والتناول العام للعامة، ونظن أن الدخول الحقيقي للحداثة المعاصرة في العالم العربي بدايته في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أي بعد انتهاء التيار الكلاسيكي للفكر العربي، ثم استمر هذا الاتجاه في التوسع شيئا فشيئًا حتى أصبح له جذور متأصلة في العالم العربي والإسلامي. ووصل بالحداثين التشكيك في الكتاب المقدس (القرآن) أو التلميح مثل ما وجدنا عند طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) حيث يرى بعض الأكاديميين أن التشكيك بالشعر الجاهلي هو تشكيك بالقرآن، وعمومًا ظهرت ثلاثة اتجاهات في هذا الشأن منهم المؤيد ومنهم المخالف والمدافع بشراسة عن القرآن ومنهم من مسك العصى من الوسط، ولقد عرض وناقش بعض هذه الآراء أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية العلوم بالقاهرة محمد قاسم المنسي في مقاله: "التفسير القرآن بين الأخلاقي والتشريعي، طه عبدالرحمن أنموذجًا"، فإلى أي مدى نستطيع أن نقول إن الحداثيين استطعوا أن يضعوا منهجًا حقيقًا لتجديد القراءات للقرآن؟ في مقابل ذلك هل يمكن أن نقول إن التخلص من قدسية القرآن يجعل من إمكانية دراسته دراسة علمية حداثية؟ وهل أثقل المفسرون القدامى القرآن بتفسيراتهم المختلفة؟

لم تكن المواجهة الحاصلة اليوم بين قبول الحداثة ورفضها وليد الثقافة المعاصرة، فقد عارض التقليديون المحدثين في العصر العباسي، وأبرز هذه المعارضات ما وجدناه من ثورة النقاد ضد أبي نواس بالمقدمة الخمرية والتجديد في الوزن والقافية، والتجديد في بنية القصيدة العربية، ووصل بالخليفة المنصور في الدولة الأموية في الأندلس إلى حرق كتب الفلسفة للفيلسوف ابن رشد واتهمه بالكفر والإلحاد، لذا يُنقل عن ابن رشد أنه قال: "بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد غيرهم"، وهذا هو ذاته ما نجده من الصراع بين المحدثين –حسب وصفهم- وبين من يرى أن القرآن لا يمكن المساس به، فقداسته جعلته ممنوعا من المساس به، فما هي الحداثة؟

يقول فادي معلوف: "توحي كلمة الحداثة بالانسلاخ عن كل ماض، بالقدر ذاته الذي تؤكد فيه على فكرة الذهاب إلى المستقبل، والسير إلى الزمن المجهول...." فالحداثة في الفكر العربي تُعد منعطفًا حقيقيًا ومنهجًا جدليًا، مما اضطر الكثير من المفكرين أن يعدوه "إشكالية عويصة حين اقتنع الذين استعاروه بضرورة هدم الذات واستبدالها بالآخر لتحقيق النمط الحداثي الذي يشع مركزيًا من الغرب"، فقد تعددت التعاريف للحداثة، "فمنهم من ربط هذه اللفظة بحقبة تاريخة ممتدة أو مختزلة، ومنهم من ربطها بالتطور الصناعي والمعلوماتي والثقافي، ومنهم من ربطها بالتحرر والتقدم والعقلانية والعلمانية... " وغيرها من التعاريف، ولكن ربما ما ذكره المنسي في نظرة طه عبدالرحمن للحداثة هو رؤية –نراها- صالحة وتنطلق من منطلقات حقيقية، فيذكر المنسي في مقاله سابق الذكر: "لاحظ –أي طه- في هذه التعاريف أنها تقع في تهويل هذا المفهوم حتى تبدو الحداثة وكأنها كائن عجيب (....) ومن ثم فهو يرى أن هذا التصور للحداثة هو تصور غير حداثي، لأنّه ينقل الحداثة من رتبة مفهوم عقلي إجرائي إلى رتبة شي وهمي حدثي (.....)، فهو يذهب إلى أنه ينبغي النظر إلى الحداثة من خلال التفريق بين روحها وواقعها...." ويقوم روح الحداثة عند طه عبدالرحمن على ثلاثة مبادئ وهي: مبدأ الرشد أي "أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الرشد"، ومبدأ النقد أي "أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد..." ومبدأ الشمول أي "أن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول..."

يتهم الإسلاميون المدافعون عن الإسلام والقرآن الحداثيين والمتطلعين إلى القراءة الجديدة للنص القرآني بالعلمانية والعقلانية والليبرالية، خاصة أولئك الذين لبسوا المعطف الإسلامي، فأخذوا على عاتقهم من خلال فكرهم المستنير –كما يعدونها- على زعزعة "وتقويض البنى المفاهيمية للفكر الإسلامي من الداخل، بعد أن فشل أسلافهم من تقويضها من الخارج ببدائل عقدية وأيديولوجية مستوردة تتربع على عرشها الماركسية بدعوى الحداثة...." والحقيقة نتفق مع ما ذكره المنسي حيث يقول: "لا يمكن أن نقول إن المسلمين لم يدخلوا إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن، وذلك لأنه سر وجود الأمة المسلمة وسر صنعها للتاريخ (....)، في المقابل فإن واقع الحداثة في المجتمع الغربي قام على أساس مواجهة المؤسسات الكنسية (....) لأنها مارست وصايتها على الدين، ووصاية على الروح والثقافة والسياسة ...."، من ذلك نفهم أن الحداثة هي في منبتها مواجهة مع الدين أيًا كان هذا الدين، فكما لاقت الحداثة الرفض في المجتمع الديني الغربي، لاقت ذات المصير في المجتمع العربي والإسلامي.

لقد حاول الحداثيون أن يتصدوا للتقليد في تناول القرآن، بما في ذلك كتب التفاسير القديمة التي يصفها احميدة النيفر بأنها "التفاسير التراثية"، فهي تفاسير تريد أن تعود للماضي ولا تجعل للقرآن روحًا يمكن أن تعيش في كل الأزمان وتتجدد فهي –كما يقول احميدة- بأنها "لا تريد أن تفعّل المقتضيات المعرفية والحضارية الحديثة في إثراء فهم المسلمين للنص ..."، وهذا يجعل من القرآن نصًا عقيمًا، لا يستطيع أن يساير التطورات المختلفة للكون سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو غيره، وهذا يضعنا في إشكالية أنه كيف نستطيع أن نقول بأن الإسلام والقرآن هو دين شمول وكلية. وعموم القول فإن هؤلاء الحداثيين أمثال محمد أركون، ومحمد شحرور  وعبد المجيد الشرفي حاولوا –كما يقول الدكتور يوسف الكلّام- "التصدي للتراث الإسلامي برمته قرآنًا وسنة بالقراءة والتحليل، متحررين بذلك من القيود التي فرضها السلف على كل من أراد الخوض في قضايا القرآن ومحاولة فهمه، رافضين تلك المناهج الإسلامية التقليدية (....) ويقترح هؤلاء –يعني الحداثيين- مناهج حداثية، يعتقدون أن تطبيقاتها على النص القرآني ستفرز نتائج مهمة، من شأنها أن تمكن الفكر الإسلامي من الانفلات من قيود الماضي، وقبضة التخلف الذي أحكم سيطرته على المسلمين منذ قرون خلت"، ولذلك هم يعدون أن المفكر الغربي "تجاوز محرمات الكنيسة لتفسيرهم للنصوص الدينية، واتصاله المباشر بالنص التوراتي والانجيلي راميًا وراء ظهره وساطة الكنيسة، ومستعينًا بالمناهج النقدية الحديثة في فهم النصوص البشرية، من أجل فهم أحسن للنص الديني المقدس".

ختامًا، في الحقيقة لا نستطيع أن نقول إن الدعوة التي أثارها المفكرون الحداثيون في العالم الإسلامي بشأن تجديد القرآءة للقرآن باطلة بالجملة، أو إنها تحارب الإسلام وتشكك المسلمين في كتابهم المقدس، ولكن يمكن القول أنّ هناك مبالغة في النظرة الحداثية عند بعضهم، وأن نزع القدسية من القرآن هي مسألة لا تقدم ولا تؤخر، ولكن لا بد من إعادة صياغة الخطاب الإسلامي بشكل عام، وقراءة القرآن قراءة حداثية تناسب الحياة العامة للناس، بعيدًا عن التقليل من قيمته عند المسلمين، وبذلك يصبح النص القرآني ذا روح منتعشة معيشة مسايرة لتقلبات الناس وأحوالهم وتطوراتهم في المجالات المختلفة، "فالفعل الحداثي الإسلامي – كما يقول المنسي-  لا يقوم على أصل التصارع مع الدين، وإنّما على أصل التفاعل مع الدين (...) وذلك لأن التفاعل مع الدين يؤدي إلى توليد الطاقة الإبداعية لدى جمهور المسلمين، إذ بقدر ما تكتمل في صدر المسلم القوة الإيمانية، تستعد ملكاته للإبداع والإنتاج..".

أخبار ذات صلة