الاضطراب الديني: أسبابه وسبل قهره

فيصل الحضرمي

يناقش مقال "استعادة السكينة في الدين، وسلامة الإنسان والعمران"، المنشور في مجلة التفاهم، مسألة الاضطراب الديني الذي يشهده العالمان العربي والإسلامي اليوم، وسبل إحلال السكينة من جديد في واقع يمزقه العنف والدمار.

ويقدم الكاتب للحديث بالبحث في جذور الظاهرة، رابطاً إمكان وقوعها بوجود اختلال في العلاقة بين الدولة أو الثورة الجديدة، والدين، مستشهداً بالمصير الذي لقيته الكنيسة الكاثوليكية إبان الثورة الفرنسية 1789، لما أن عدها الثوار وثيقة الصلة بالملكية التي ثاروا عليها، فما كان لها إلا أن تحظى بنفس القدر من البطش والقمع، بما نكبت به الكنيسة الأرثوذكسية في ثورة 1917 الروسية، جراء ارتباطها بالقيصرية، وتعارضها مع الفكر الشيوعي الإلحادي معاً. أما الزرادشتية، فقد نشأت في القرن السادس قبل الميلاد، وتعضدت باقترانها بالدولة وملك الملوك، سيما في العصر الساساني الممتد بين القرنين الثالث والسابع الميلاديين. ثم ما إن انهارت الدولة الساسانية حتى انهارت معها الديانة الزرادشتية وأوشكت على الزوال.

هكذا يرى الكاتب ضرورة أن يستقل الدين باعتقاده القوي، وبنظامه الخاص، وأن يتخلى عن طموحاته السياسية، ويحافظ على علاقة متزنة بالدولة تجنبه التماهي معها والتلاشي فيها، أو الاصطدام بها. غير أن الكاتب لا يفوته أن يلفت النظر إلى أنَّ الأمثلة التي ساقها بخصوص الأديان الثلاثة آنفة الذكر، ما عادت كافيةً وحدها لتفسير الاضطراب الديني في عالم اليوم؛ فقد طرأت تغيرات كثيرة بمجيء الحداثة، بحيث إن الاضطراب الديني أصبح وقوعه ممكناً لأسباب أخرى غير اصطدام الدولة به، وبحيث إن حيادية الدولة إزاء الدين، وتوددها له، قد لا يكونان كافيين لاستعادة السكينة المنشودة، وهو ما ينطبق أيضاً على استيلاء الدولة على الدين، والعكس.

شهدت الديانات المختلفة في العقود الأخيرة اضطرابات دينية نابعة من صميمها، لا بفعل صدامها مع الأنظمة القائمة؛ فهناك ما يسميه الكاتب "الثوران الكبير" في البروتستانتيات المعاصرة، والثوران الكبير في اليهودية والإسلام، وأكبر من ذلك وأخطر شأناً الثوران الكبير في أديان آسيا الكبرى، كالبوذية والهندوسية. وبحسب الكاتب، فإن هذه الأصوليات الجديدة تتفق في خروجها عن الخط التقليدي للأديان التي تنضوي تحتها، مع اختلافها في التفاصيل والغايات. فالبروتستانتيات المعاصرة تنادي بمطالب دينية وشعائرية واجتماعية كانت الكنائس الكبرى قد هجرتها، كما أنها تقف بالمرصاد لكل تقليد سائد، سواء أكان دينياً أم لا. أما الانشقاقات الأصولية الآسيوية فكأنما تبحث لها عن هوية في الدين، وتبدو شديدة الالتصاق بالقومية والإثنية، شديدة العداء لكل ما تعده غريباً ودخيلاً. ويفسر الكاتب ذلك بالقول إن الطبيعة التفكيكية للحداثة، بما تتسم به من شك وعدم تأكد، ساهمت في ضعضعة التقاليد الراسخة، وتضخيم الفردانيات والجماعات الصغيرة، ما نجم عنه خلخلة الثوابت والأعراف في المجتمعات والأديان.

لكن بالرغم من حداثية هذه التشققات، أو الأصوليات -إذ إنها ولدت معها وبها- إلا أنها معادية لها في نفس الوقت. فهي، من ناحية، تسلك مسلك الحداثة في كراهية التقاليد التي يتواضع عليها الجميع في مجتمعٍ ما، أو ديانةٍ ما، وهي، من ناحية أخرى، تختلف مع الحداثة في كيفية تمظهرها، ووسيلتها إلى إثبات وجودها. فبينما تعمد الحداثة إلى ابتداع الجديد بصفة يومية، وصناعة مستقبل يختلف تمام الاختلاف عما عرفه الماضي في الاجتماع والدين والسياسة، تحاول الأصوليات التماس شرعيتها في العودة الواهمة إلى الأصول. فاليهود يلتمسون الشرعية في العهد القديم وتوابعه، والإحيائيون المسلمون في الكتاب والسنة، والبروتستانت الأصوليون في العهدين القديم والجديد، وهلم جرا.

وعلى مستوى الإحيائيات الإسلامية، يرى الكاتب وجود فارق كبير بين الحركة الشيعية والحركة السنية. فوجود مؤسسة دينية قوية في إيران هو ما سمح للثوران الكبير أن يتحول إلى ثورة دينية سنة 1979، بينما لم تفجر الإسلاميات المسيسة والجهاديات ثورة جذرية في الإسلام السني. ويعتبر الكاتب ضخامة واتساع رقعة المجتمعات السنية سبباً رئيساً في غياب مؤسسة قوية في الإسلام السني. وحين تصدع التقليد في العالم السني، وتأزم الوضع بسبب الاستعمار واشتراطات الحداثة، تغيرت الحياة وأنماطها، فوجدت جماعات الهوية والطهورية نفسها في وضع يضطرها إلى اجتراح فقه جديد مختلف عن الفقه التقليدي، لمواجهة ما طرأ من تغيرات. هكذا نشأ الاضطراب الذي عبث بالمفاهيم والثوابت، ونجمت عنه الانشقاقات والتمردات التي ستجد في الشباب الغاضب وقودها الذي لا ينضب. ولما كان الإسلام السني هائل الحجم، كان من الطبيعي أن يمتد أوار اضطراباته إلى مناطق أخرى من العالم. لقد جعل الاضطراب الديني المجتمعات العربية والإسلامية طاردةً، وغير مستقرة، وعاجزةً عن توفير الحماية لدينها ولأفرادها. من هنا يلح الكاتب على ضرورة استعادة السكينة للدين، حيث أن في طمأنينته واستقراره، طمأنينة واستقرار مجتمعاته. وهي مهمة يراها غايةً في التعقيد، بعد أن أضيف إلى الاضطراب الديني الاضطرابُ السياسي، والاضطراب الاجتماعي، والسياسات الدولية المتصارعة. وبحسب الكاتب، فإن الضرر الذ ي أحدثته وجوه الضعف الداخلي على أهميتها البالغة، أقل شأناً من الضرر الذي ألحقته بالإسلام، وبالدول والمجتمعات المسلمة، تلك السياسات الدولية التي ما توقفت عن شن الحروب ضد "الإرهاب الإسلامي"؛ فجميع الدول الكبرى، تقريباً، ترى نفسها مستهدفةً من قِبل "التطرف الإسلامي"، وموقفها هذا تبرره الاعتداءات الإرهابية الموجهة ضد المجتمعات الغربية، والتي بدأتها القاعدة، وتستمر في ارتكابها خلايا داعش والتنظيمات الأخرى.

وأخيراً، فإن السكينة المنشودة التي ينادي بها الكاتب تتحقق أولاً بإعادة الاعتبار إلى "ثوابت الدين وإجماعات المسلمين وأعرافهم المستقرة والجامعة". فقد جرت عمليات تحويل كبرى لعدة مفاهيم أساسية في العقيدة الإسلامية كمفهوم التوحيد، ومفهوم الشريعة، ومفهوم الجهاد، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفهوم الجماعة. وما التكفير، واستباحة دم وعرض ومال المسلمين أنفسهم، إلا أحد تمظهرات ما أصاب هذه المفاهيم من تشويه وتحوير. كما تتحقق ثانياً، بإبعاد الدين عن الشأن السياسي، مع المحافظة على الانسجام بينه وبين الدولة.

 

أخبار ذات صلة