الأمانة في الإسلام

ناصر الكندي

يتناول الكاتب محسن العوني مفهوم الأمانة في مقاله "مفاهيم الأمانة في القرآن والسنة وأعمال المفسرين" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- إذ يشير إلى أن مفهوم الأمانة من المرتكزات القرآنية الأساسية في الحياة، وقد وردت هذه الكلمة أكثر من ثلاثين مرة في القرآن بكل اشتقاقاتها، كما وردت أيضا في السنة المطهرة، ولا يخص هذا المفهوم الجانب المادي فقط، وإنما يتجاوزه للجانب المعنوي مثل حرمة الذات الإنسانية. وليست الأمانة بشيء جديد على الأمة العربية، فقد كانت ضمن المبادئ الأساسية للحياة وتعير العرب إذا خانت.

 

ويعرّف الباحث الأمانة لغة واصطلاحا؛ فمن ناحية اللغة تعود الكلمة إلى أصلها في الفعل الثلاثي من الاشتقاق "أمن" وهو الطمأنينة وزوال الخوف، أما اصطلاحا فهناك عدة تعريفات منها: اسم لما يحفظه المرء لدى غيره، وهي كل حق لزمك أداؤه وحفظه، وكذلك كتم الأسرار وغيرها من التعريفات. ويشير الباحث إلى أن كلمة الأمانة وردت في العديد من الموضوعات في القرآن منها: صفة روح القدس جبريل عليه السلام، وإشفاق السماوات والأرض. كما أن مفاهيم الأمانة في القرآن وردت على ثلاثة وجوه: الفرائض والودائع والعفة.

والأمانة نوعان: الأمانة العظمى والأمانة الصغرى، والأولى هي الأمانة المعنوية وتتعلّق بحقوق الله على عباده، وأما الصغرى فهي عينية، وتختص بحفظ الأشياء المادية وهي عامة ملزمة للجميع، ويتجلى مفهوم الأمانة في السنة في شخص النبي المحمود والصادق الأمين، وهو صاحب الخلق العظيم كما ذكر القرآن، كما كانت العرب تسميه قبل البعثة بالصادق الأمين.

والأمانة هي علامة من علامات الإيمان، بل هي أساس الإيمان وذلك حين يقول الرسول:"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". وكذلك في حديثه : "أدِّ الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك". كما يتطرق الكاتب إلى أن ضياع الأمانة هي علامة من علامات الساعة، فهي علامة على تصدّع نظام الكون وذلك بالإشارة إلى الحديث:" جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى تقوم الساعة؟ فقال له : إذا ضيّعت الأمة الأمانة فانتظر الساعة. فقال :وكيف أضاعتها؟ قال :إذا وسّد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة." ومن مقتضيات الأمانة الكفاءة، أي وضع الشخص المناسب في المكان الحقيق به، دون أي ميل بسبب قرابة أو هوى، ويستشهد الباحث في ذلك بوجهة نظر مستشرق روسي حين أبدى إعجابه بالحياة الإسلامية إذ يجتمع عالم وراعي غنم في الشخص ذاته، كما أنه لا تراتبية في الحق بالإسلام.

وتعد الأمانة جذرا في قلوب الرجال، أي منزلة في قلوبهم، غريزية، محاسب من يخونها في قلبه، ويغفر الله يوم القيامة جميع الذنوب إلا من خان الأمانة، حتى من استشهد في سبيل الله لا مفر له من نيل حسابه بخصوص الأمانة، وهذا دليل على عظم شأنها أمام الخالق.

ويذكر الباحث عن الأمانة في أعمال المفسرين مستفتحا ذلك بأحد كبار اللاهوتيين الغربيين -لم يذكر اسمه، وأغلب الظن أنه الفرنسي أوغست كونت- إذ يقول إن تجربة الإنسان الروحية تمر بثلاث مراحل: اللاهوت، والميتافيزيق، وأخيرا التجاوز. ويؤكد الباحث أن الأمانة عموما أزلية الوجود وليست خاضعة للتجربة أو تمر بمراحل.

ويستعرض الباحث مفاهيم الأمانة في المدونة التفسيرية، ويعيب عليها تكرارها الرتيب لما سبق قوله دون التفات إلى التفسير الموضوعي، ويذكر أن جميع المفسرين ينطلقون في تفسيرهم للأمانة من الآية الكريمة من سورة الأحزاب: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان"، وقد قال الأصفهاني أن الأمانة هنا من خصائص الإنسان، وقال ابن عاشور إنها من مشكلات القرآن، فقد تكون أمانة الإيمان، وقد تكون أمانة العقل، وأيضا ما يؤتمن عليه. ويذهب باقر الصدر إلى أنها الوجه التقبّلي للخلافة، كما قال الزمحشري أن الأمانة هي الطاعة، واستحسن الطبري الأمانة بأنها جميع الأمانات في الدين، وذهب القرطبي إلى أن الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال.

وهناك آية ثانية من سورة النساء تتكلم عن الأمانة أيضا: "إن الله يأمركم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا". يذهب القرطبي إلى أنها من أمَّات الأحكام، ويرى الطبري أنها خطاب من الله إلى أولي الأمر لأداء الأمانة، ويقول الزمخشري بأنها خطاب عام لكل أمانة ولكل أحد. وينتقد الباحث تقديم الآية الأولى على الثانية كتبيان لمعنى الأمانة على مستوى الممارسة، لأن الأولى تنطلق من عدم تحمل الإنسان مالا يطاق بشأن الأمانة، في حين يقوم الله بعد ذلك بأمر الإنسان بتحمل الأمانة في الآية الثانية. لهذا ينبغي تقديم الثانية على الأولى باعتبار أن الأصل هو تحمل الإنسان الأمانة.

أما الآية الثالثة، فهي من سورة الأنفال: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون". يقول البيضاوي إن أصل الخون النقص وهو عكس التمام في الأمانة، ويذهب ابن كثير إلى أنه أمر الخالق بعدم مخالفة العلن للسر.

والأمانة مقصد أساسي من مقاصد الشريعة إلى جانب الحرية، فهي شيء فطري غريزي في الإنسان، فهو يوجد في الإنسان وفقا لعدة ولادات، الولادة الأولى تكون فردية ولكنها تحتاج لولادة ثانية واكتساب حين تتصل بالنسيج الاجتماعي، وهكذا دواليك. ويشبه هذا كثيرا جدلية الفيلسوف الألماني "هيجل" حين يقرّ في فلسفته أن الإنسان يملك في روحه بذرة الله، لكنها تنمو وفقا لجدلية ونفي الفردي ليستوعب الجماعي ومن ثم تتصل في النهاية بالروح المطلق.

ويُؤكد الباحث أن الأمانة هي أساس الانطلاق في الحياة خاصة في الحياة السياسية، وهي عكس ما يحصل في الانتخابات التي تصرف الأموال لكسب الناخبين والذي مثلما يقول أحد الصحفيين الأمريكيين بأن من يفعل ذلك: "يجب أن لا يُستأمن!!" وهو هنا يقترب من فلسفة "كانط" الأخلاقية التي تنطلق من فكرة معاملة الناس على أنهم غايات في حد ذاتهم وليسوا مجرد وسائل. ويعزو الباحث مسؤولية انتشار المحسوبية والرشاوي والفساد إلى غياب هذا المبدأ والتلاعب به.

وينطلق الباحث في تأصيل الأمانة من النص الديني مُلتفتا بندرة إلى التأصيل الفلسفي والقانوني، وهو وإن ذكر بعض المحاولات الفكرية ولكن بطريقة خجولة مغلبا النص على العقل، إلا أن الواقع المعاصر يحتم اللجوء إلى مصادر أخرى للتأصيل تحرّيّا للتعايش بين جميع الفئات والعقائد. وفي هذا الإطار من الممكن ذكر تجربة أب الوجودية الدينية "كيركجارد" في العودة إلى الدين بالنسبة للأمانة، فهو ينطلق عكس أوغست كونت في المراحل إذ يبدأ باللذة ومن ثم المسؤولية وأخيرا الدين. ناهيك عن الفلاسفة المثاليين الذي أعادوا العقل للميتافيزيق وليس للتجربة والنفعية.

أخبار ذات صلة