فيصل الحضرمي
في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "القرآن الكريم وعلم مقارنة الأديان"، ينطلق الباحث يوسف الشاطر من فرضية أنَّ القرآن الكريم "أسهم في تأسيس علم مقارنة الأديان وتأصيله، وتحفيز المسلمين على الإقبال على هذا الفرع العلمي والتأليف فيه". وبغية تدعيم رأيه هذا يورد الباحث عدداً من النقاط التي نوَّه بها القرآن الكريم، والتي عدها هو "بذوراً لدراسة الأديان"، كما يستعرض مجموعة من طرائق البحث التي تناول القرآن الكريم عبرها الأديان والمُعتقدات الأخرى، وهو ما اعتبره الباحث ذا صلة مباشرة بعلم الأديان المقارن. وستكون لنا، في خاتمة هذه المقالة، عودة إلى زعمه هذا، بعد أن نكون قد استعرضنا، أولاً، أهم ما جاء في البحث من نقاط.
بحسب الباحث، تتلخص بذور دراسة الأديان التي حواها القرآن الكريم في توكيد حقيقة الاختلاف في الدين، والاعتراف بالأديان الأخرى، والدعوة إلى التعارف، وترسيخ مبدأ الحوار مع الآخر. فالآية الكريمة {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} دليل على أنَّ الاختلاف في الدين سنة إلهية، والآية الكريمة {لكم دينكم ولي دين} تقدم اعترافاً بالأديان الأخرى، ودعوة ضمنية للباحثين لدراسة الأديان وتحليلها، والآية الكريمة {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} تدعو الناس جميعاً إلى التعارف فيما بينهم، في حين يترسخ مبدأ الحوار مع الآخر من خلال توجيه القرآن الكريم المسلمين إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، كما عبَّر ما يقرب من مائة وعشرين موقفاً حوارياً حول الدين، شغلت حوالي سدس آيات القرآن الكريم.
أما طرائق البحث التي استعملها القرآن الكريم في تناوله للأديان والمعتقدات، والمواضيع والحقائق التي طرحها في هذا الشأن، والتي عدها الكاتب من صميم علم الأديان المقارن، فتتمثل،وفق رأيه، في التأريخ والوصف، والجدل والنقد والرد، والكشف عن تحريف التوراة، والقول بتبني المسيحية لعقائد الأمم الوثنية السابقة.
فقد أرخ القرآن الكريم ووصف ديانات الصابئة، والمجوس، وعباد الكواكب والأوثان، والمشركين، وأهل الكتاب، معدداً معبوداتها، وأنبياءها، وكتبها، ومعتقداتها، وشعائرها. حيث تتضمن قصة سيدنا إبراهيم الإشارة إلى عبادة الأصنام، وقصة فرعون الإشارة إلى عبادة الملوك، وقصة سليمان عليه السلام مع الهدهد الإشارة إلى عبادة الشمس، وقصة إلياس عليه السلام الإشارة إلى عبادة بعل. كما تحدث القرآن الكريم عن معتقدات الأمم الماضية، وعن أنبيائها ومعجزاتهم وأقوالهم وما وقع بينهم وبين أقوامهم. أما الديانتان اليهودية والمسيحية، فقد تناولهما القرآن الكريم بكثير من الإسهاب والتفصيل. إذ ورد ذكر اليهود وبني إسرائيل، تلميحاً وتصريحاً، في خمسين سورة، وشغل الحديث عنهم نصف سورة البقرة، ووردت كلمة التوراة في سبعة عشر موضعاً، بينما كانت قصة موسى عليه السلام أكثر قصص الأنبياء وروداً في القرآن الكريم. أما فيما يخص المسيحية، فقد وصف القرآن الكريم عقائدها المختلفة، وتعرض لقصة عيسى عليه السلام، ذاكراً معجزاته والهدف من رسالته، كما ورد ذكر الإنجيل في اثني عشر موضعاً، والحواريين في خمسة مواضع.
ووظف القرآن الكريم أساليب الجدل والنقد والرد في مناقشته للأديان، معتمداً الحجة والأدلة العقلية للبرهنة على بطلانها وفسادها، كما في الآية الكريمة {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين}، والآية الكريمة {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}. كما يورد الباحث مثالاً آخر على ذلك يتمثل في سورة الأنعام، التي ذهب بعض المفسرين إلى عدها أصلاً في محاجة الملحدين والمشركين ومُنكري البعث والنشور.
أما الحقائق التي كشفها القرآن الكريم، والتي عدَّها الباحث "حقائق مهمة في علم مقارنة الأديان، لم يتوصل إليها الباحثون الغربيون إلا مؤخراً"، فتتلخص في تحريف التوراة، وتَمثُل النصرانية لعقائد الأمم الوثنية السابقة. ففيما يتعلق بتحريف التوراة، أكد القرآن الكريم على وجود تغيير في نص التوراة الأصلي، وذكر الوسائل المختلفة التي قام اليهود عبرها بإحداث هذا التغيير؛ من قبيل التحريف، والإخفاء والكتمان، وإلباس الحق بالباطل، والتعطيل، والنبذ والإهمال، وتأليف كتابٍ والادعاء أنه وحي من الله تعالى.
أما فيما يخص تبني الديانة المسيحية لعقائد الأمم الوثنية السابقة، فإن الباحث يشير إلى أن القرآن الكريم قد أكد على ذلك في الآية الكريمة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُون}. وهو، وفق الباحث، ما توصل إليه أيضاً كثير من الباحثين الغربيين، وعلى رأسهم الباحث الفرنسي شارل جينبير، أستاذ تاريخ المسيحية بجامعة باريس، والذي كشف، في كتابه "المسيحية: نشأتها، وتطورها"، عن
العقائد الوثنية التي قام القديس بولس – بولس الرسول- بتكييفها مع العقائد المسيحية، وفي مقدمتها عقيدة "بنوة المسيح"، التي دلل جينبير على أن تسللها إلى الدين المسيحي ناجمٌ عن خطأ ارتكبه بولس الرسول في ترجمة عبارة "عبد الله" -التي كان يرددها المسيح- إلى "طفل الله"، وما استتبع ذلك من تغير هائل في التصور المسيحي للإله.
هكذا يخلص كاتب المقالة، بناءً على ما تقدم ذكره، إلى عددٍ من الاستنتاجات التي ربما كان أهمها أن القرآن الكريم "دعا إلى دراسة الأديان، وكان لتوجيهاته أبلغ الأثر في إقبال المسلمين على هذا الفرع العلمي"، وأنه "كشف عن حقائق دقيقة في علم مقارنة الأديان لم يتوصل إليها الباحثون إلا مؤخراً". غير أنَّ هذين الاستنتاجين لا يجدان لهما، في متن البحث، مقدمة توصل إليهما، ولا دليلاً يثبت صحتهما. فليس في الآيات الكريمة التي أوردها الباحث في مقالته ما يتضمن دعوةً أو توجيهاً للمسلمين إلى دراسة الأديان، على أنَّه يمكن رد "إقبال المسلمين على هذا الفرع العلمي" إلى ما ذكره الشهرستاني في كتابه الأشهر "الملل والنحل" من أن "العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم: أحدها علم الأنساب والتواريخ والأديان، ويعدونه نوعاً شريفاً". كما لم يورد الباحث ما من شأنه إثبات أن مسألتي تحريف التوراة، وتشرب المسيحية بالعقائد الوثنية، لم تُعرفا "إلا مؤخراً" على حد قوله.
يضاف إلى ما سبق أن الباحث، عكس ما كان حرياً به، لم يربط بين الخلاصات التي قاده إليها البحث، وبين زعمه إسهام القرآن الكريم في تأسيس علم الأديان المقارن. غير أنه لما كانت مقاربة القرآن الكريم للأديان مقاربةً دينية إلهية لابشرية، بالضد من المقاربة البشرية العلمية التي ينتهجها علم الأديان المقارن، ولما كان الغرض من مجادلة القرآن الكريم للأديان، بحسب الباحث، "إماطة اللثام بالحجج والبراهين عن خللها وخلطها وزللها وتهاوي مبناها، وتهافت دعواها"، في حين يرمي علم الأديان المقارن، وفق الموسوعة البريطانية، إلى "الوصول إلى فهم أوسع وأعمق للمعتقدات والممارسات البشرية فيما يتعلق بالمقدس، والمعجِز، والروحاني، والألوهي"، فإنه يمكننا الوقوف على اختلاف كبير بين نظرتي كل من القرآن الكريم وعلم الأديان المقارن إلى الأديان والمعتقدات، ما يشي بتعذر أن يكون صحيحاً ما زعمه الباحث من تأسيس القرآن الكريم لعلم الأديان المقارن.
