عاطفة المسكرية
من المألوف أن يلتفت دارسو السياسة والقانون وأغلب من هم في هذين المجالين إلى المسائل الواردة في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو. ومن هذا المنطلق، نجد الأستاذ فايز محمد حسين محمد، الذي يشغل وظيفة أستاذ ورئيس قسم فلسفة القانون وتاريخه بكلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، يناقش بعضا من أهم هذه المسائل التي تتمحور حول العلاقة بين الانضباط الاجتماعي ووجود السلطة في المجتمع في مقال له بعنوان "السلطة والشرعية وحكم القانون: النموذج الروماني" مستندًا على أحد أهم النماذج التاريخية في عملية الانتقال بين أنظمة الحكم.
تعد من ضمن الأفكار الرئيسية التي وردت في العقد الاجتماعي لروسو مسألة تنظيم المجتمع عن طريق وجود نظام حكم يتنازل فيه الأفراد عن جزء من حرياتهم – وليس حقوقهم – من أجل أن تضمن لهم هذه الأنظمة الأمان. تتعارض هذه الفكرة مع شريعة الغاب التي كانت تسود المجتمعات بدلًا عن فكرة أنظمة الحكم بغض النظر عن نوعها. إذا ما جئنا نتدارس الأمر بشكله البسيط بعيدًا عن التعقيدات، نجد أنّ وجود القوانين التي تشرف على تطبيقها أنظمة الحكم بسلطاتها المختلفة قد يساهم بشكل أو بآخر في أن يأخذ كل ذي حق حقه وما يزيد عن ذلك بنفسه. هذه هي الفكرة البسيطة التي نشأت من خلالها عملية تنظيم المجتمعات بشكلها الحالي - الدول - تسودها أنماط مختلفة من أنظمة الحكم. ولكن مع وجود هذه الأنظمة اليوم، هل أصبحت العدالة تسود المجتمعات؟ هل عرفت الحدود ما بين الحقوق والواجبات؟ هذا ما يجب طرحه في مسألة التنازل عن الحريات مقابل أن تسود العدالة، حيث يختبر شرعية السلطة ومستوى حكم القانون بين هذه المجتمعات.
يقر الأستاذ فايز في مقالته بأهميّة وجود السلطة وكونها ضرورة اجتماعية تقضي على الفوضى وتنظم حياة الإنسان، حيث ذكر أنّها في آخر المطاف نظام أنشأه المجتمع الإنساني لخدمته وتنظيم شؤونه. لا يختلف اثنان على أسباب الإنشاء ولكن المسألة أصبحت تتمحور حول المستويات التي وصلت إليها هذه الأنظمة في تحقيق الأهداف المرجوة من إنشائها. إضافة لذلك، لابد من اختبار مدى سيطرة هذه المجتمعات على الأنظمة في كل مستوى حيث انقسمت آليات الحكم بين الأنظمة الملكية، والديمقراطية، والجمهورية، والديكتاتورية … إلخ. كما ورد طرح توجه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم حول هذه المسألة وتحديدًا فيما يتعلق بالحقوق والواجبات؛ فيستحيل أن يقوم كل أفراد المجتمع بواجباتهم على أكمل وجه وبشكل منظم - مع وجود الأنظمة والقوانين - ولا زال هذا الهدف لم يتحقق تمامًا، بالتالي عدمية الحقوق، مما يعني غياب العدالة والحياة الطبيعية التي من المفترض أن يحياها البشر. ذكر الأستاذ فايز في مقاله النموذج الروماني لكونه انتقل من نظام ملكي إلى جمهوري ومن ثم إلى امبراطورية كاملة. في النظام الملكي لم تكن سلطة الملك تكفي لإدارة شؤونهم فأنشأوا مجلس الشيوخ والمجالس الشعبية مع احتفاظ الملك لنفسه بصلاحيات أكبر. فلا بد أن يكون باستطاعة النظام الحاكم إدارة شؤون الرعية حيث أنه من مبررات بقاء السلطة - من وجهة نظر الكاتب - قدرتها على تبني أهداف ورؤية المجتمع لأنّه فقط حينها ستستطيع الحصول على القبول من المجتمع؛ فالمنفعة التي تعود على الأفراد من المفترض أن تكون مراعاةً في سياق البحث عن المبررات للخضوع للسلطة كذلك. منذ أن وجدت السلطة كافحت المجتمعات البشرية على سيادة القانون وقامت ثورات من أجل ذلك؛ فحتى وإن استمر غياب العدل طويلاً، فلابد أن يتغير الوضع يومًا ما وهذا ما أثبته التاريخ ولا زال. أيضًا، لا زال القتال قائمًا بين عنصري السلطة والحرية بين المجتمعات. إن الوصول لنقطة الاتزان وبلوغ أسمى أهداف إنشاء السلطة يعد أمرًا بالغ الصعوبة بين نداءات الحرية التي تنضح بها الشعوب والمجتمعات البشرية بشكل عام، فالسلطة من المفترض أنها كبحٌ لشيءٍ من الحرية التامة للبشر ضمن مجتمعاتهم، فمن يحدد مستوى هذا التكبيل؟ وبناءً على ماذا؟ من هنا تتعدد الإجابات بتعدد الظروف والزمان والمكان وطبيعة المجتمعات في بقعة ما على الأرض. ما قد يراه شخص ما في الشمال حقّا ممنوحا له، قد يراه البعض امتيازًا حصل عليه، وهنا تختلف المعطيات باختلاف الأسباب المرتبطة بتاريخ المجموعات البشرية والمراحل التي مرت بها السلطة -أنظمة الحكم- لديهم.
يعالج الأستاذ في مقاله إحدى النقاط المهمة في نفس سياق مشكلة الاتزان ما بين السلطة وكبح الحريات، حيث يذكر أنّ التمييز بين الدولة وشخص الحاكم يعد أمرًا ضروريًا وإلا تكون النتيجة زوال الدولة بزوال الحاكم. في أخذ هذه النقطة بعين الاعتبار، تتفادى المجتمعات الواقعة تحت السلطة تبنّي نهج الاتزان لفترات قصيرة تنتهي بزوال السلطة الحالية، وذلك يؤدي إلى تعارض مع الأهداف طويلة المدى لإنشاء السلطة والدولة معًا. (انسلاخ السلطة من الحاكم) قد يُرى بشكل أكثر وضوحًا في الأنظمة الديمقراطية على الرغم من استمرارية تأثير منهجية حكم الحاكم على السلطة، إلا أنّ الأسس تبقى ثابتة. على سبيل المثال، يعد عنصر الأمن القومي في مقدمة قائمة الأولويات لدى بعض الدول الديمقراطية. يأتي الحكام من مدارس وأحزاب مختلفة، يؤثرون على مسار وتوجهات الدولة عدا أنّ الأسس والثوابت لا مساس بها ويتم إقصاء من يهدد أيّاً منها بأيّ شكلٍ كان. إنّ مسألة التنازل عن جزءٍ من الحرية الفردية مقابل الضمانات الأمنية وبجانب الحقوق ومعرفة الواجبات، هي مسألة جدلية بسبب التغييرات التي حصلت جرّاء الاستغلال الحاصل من قبل السلطة السياسية للأفراد واضطهادهم تحت مسمى الحكم في العديد من المجتمعات البشرية منذ القدم والتي تنقسم وتتجسد اليوم على هيئة دول لها قوانينها مع اختلاف أنظمة الحكم بها. لا تزال مسألة قياس شرعية السلطة نسبية تتصل بالتاريخين الإنساني والجغرافي معًا وترتبط بمدى وعي هذه المجتمعات بواقعها كذلك.
