أسماء عبدالله القطيبي
يناقش الباحث المغربي محمد الناصري المهتم بالدراسة في مجالات الفكر الإسلامي في مقاله "النسخ وشرعة السيف" العلاقة بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم على ضوء القرآن والسنة، حيث يفتتح مقاله بالقول "إن أصل علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الدول التي لا تدين بالإسلام السلم لا الحرب"، ورغم بساطة هذا القول - وبداهته للبعض- إلا أن القارئ للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وشروح وتفاسير كثير من (أئمة الإسلام المعروفين) سيواجه ما قد يبدو نقيضًا لهذه الفكرة.
ذهب كثير من المُفسرين مثل الطبري وابن كثير والقرطبي إلى أن آيات الصفح والتعايش وحسن الجوار نسختها آيات الحث على قتال المشركين والكفار، وبالأخص آية السيف "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد....."، حتى أن بعضهم ذكر أنَّ هذه الأية وحدها نسخت خمسا وسبعين آية منها قوله تعالى "لا إكراه في الدين"، وهو ما يدعو للغرابة ويدفع للتساؤل عن سبب إصرار هؤلاء المفسرين على التمسك بتفاسيرهم التي يدحضها العقل والواقع، بينما استطاع غيرهم من المفسرين –عن طريق إرجاع الآيات لسبب نزولها- توضيح المسألة وإزالة اللبس المتوقع حصوله. ويذكر الناصري أنه لو سلمنا جدلا أن آيات القتال إنما جاءت مراعية التدرج في شرع القتال حسب مراحل قوة الأمة وضعفها (كما يقول ابن العربي المالكي في كتاب أحكام القرآن) فإننا سنقع في ذات الإشكالية وهي أن النسخ الحاصل في كل مرحلة ينفي صفة الإحكام في آيات القرآن "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"، كما وأنَّ ذلك سيفتح مجالا واسعا للتخمين في تقييم وضع الأمة الحالي لاختيار الطريقة الأمثل في التعامل مع الآخر، وغالبا سينتهي الأمر بالشقاق بين المسلمين أنفسهم كونهم لا يستندون على أية قاعدة سوى التقدير الذاتي للوضع.
وبالعودة لواقع حال المسلمين الأوائل الذين نزل فيهم القرآن سنجد أن علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية لم تنقطع يومًا مع غير المسلمين، بل إن الإسلام نفسه لم يمنع استمرار صلات النسب مع اليهود والنصارى(اليوم أحل لكم الطيبات....والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) ولو أن الإسلام أمر بمبدأ قتال جميع المشركين حتى المسالمين منهم، لما بقوا في الجزيرة العربية وللاذوا بالفرار حفاظاً على أرواحهم وأموالهم، وهو ما لم يفعله المسلمون الأوائل الذين تلقوا الرسالة المحمدية بقلوب واعية، وفهموا الآيات وظروف تطبيقها، وأدركوا أن القوة ليست في القضاء على الآخر بل في تأسيس قواعد متينة للمجتمع الإسلامي تجعل كل ساع للفتنة والشقاق في حذر وريبة، ومن ذلك تأسيس قوة قتالية مستعدة وهو ما يسمى في عصرنا الحالي بـ"السلم المسلح"، وعدم التهاون في ردع كل معتد، والامتناع عن التعامل وإقامة العلاقات التجارية والسياسية مع كل من يشكل خطراً على وحدة الأمة وسلمها، ومن الآيات التي تؤكد ذلك قوله تعالى:"لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم وأخرجوكم من ديارهم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"، وهي مبادئ عامة سامية تطبقها الدول المتحضرة إلى اليوم لتحقيق أعلى قدر من العيش الكريم لمواطنيها، ولضمان مستقبل آمن لهم.
إن التفاسير المتشددة التي تعد غير المسلم نجاسة إنما جاءت بعد عصر الخلفاء الراشدين في زمن اشتد فيه عود الأمة الإسلامية، وزادت رقعة سيطرتها، ولعل ذلك ولد الشعور بالفوقية لدى المفسرين والعلماء، وحدى بهم إلى النظر للآخر نظرة دونية، والنظر لقياداتها نظرة القوي المتفضل على الضعيف المحتاج. وهو موقف سياسي تداخل مع الموقف الديني لفقهاء الأمة آنذاك، وإن كان هذا ما حدث فعلاً فإن الوضع الحالي لحال الأمة قد تبدل وتغير، متأثرا بتغير العالم من حوله، وبأنظمته وسياساته ومعاهداته. فحري بالمسلمين أن ينشطوا معًا -كما غيرهم- للتخلص من التفاسير الداعية للقتل والإبادة، كونها لا تؤمن بالتعايش الإنساني، ولا تقل وحشية في مضمونها عن تلك التي تدعو للتطهير العرقي، وسواء كتبت في عصر صدر الإسلام حين توسعت رقعة الدولة الإسلامية فأخذ الغرور ببعض المفسرين أن دعوا لقتل كل من لا يُشابههم، أو كتبت تملقاً لبعض السلاطين وتبريرا لتعطشهم للقتل والدماء، أو كتبت جهلا وقصورا في المعرفة والبحث. فإنها تفاسير خطرة لا ينبغي تداولها أو الأخذ بها كرأي - خاصة وأنها لمفسرين وفقهاء معروفين-، لأن تداولها اعترافا بصحتها، وإقرارا بإمكانية تطبيقها، وهي حجة لغير المسلم تجعله دائم التحرز وكثير الشك في فكر المسلم ونواياه تجاهه، ولا يمكن لومه م بأية حال على ذلك، فالجماعات التكفيرية والإرهابية تتخذ من هذا التراث الديني سندا وحجة، متفاخرة به ومطبقة لما يمليه عليها من فساد وتخريب.
إن الواقع اليوم لا يصنف البشر إلى أمم إسلامية وأخرى نصرانية أو يهودية وإنما يصنفهم كشعوب متنوعة الأعراق والأديان، وبقدرتها على التمازج والتعايش تحقق الشعوب رفعتها، أما تلك المنغلقة الرافضة للانفتاح فإن مصيرها التناحر مع بعضها البعض ناهيك عن التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي لابد أن يصيبها. لذا فإنَّ التعايش السلمي -لا الإسلام ولا غيره - هو الحل.
