ناصر الكندي
قد يكون من الصعوبة قراءة نص تراثي بحياد. فالقارئ، في نهاية المطاف، هو ابن زمنه وتوجهه الفكري وقناعاته. ولهذا تجد النص يُلوى عنقه ليتماشى مع المعنى الذي يريده القارئ. ولطالما تمّت قراءة النصوص التراثية وفقا لأيديولوجية معينة سواء كانت سلفية أو قومية أواشتراكية وغيرها من القراءات. وتقوم هذه القراءة قطعا بشطب اللا مفكر فيه أو المسكوت عنه حتى تخلق نموذجا قابلا للتوظيف في ما يراد للنص أن يكونه. وهناك قراءات حديثة تحاول أن تخلق وعيا أكثر استنارة مثل القراءة الهيرمونوطيقية والقراءة الابستميولوجية والقراءة السايكولوجية والتفكيكية وغيرها. إلا أن هذه القراءات قد تقع أيضا في فخ إسقاط معانٍ على نصوص لا تنتمي في الحقيقة إليها. وفي ظل هذه المتاهة القرائية يقوم الباحث الدكتور "فيصل الحفيان" مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة في مقاله "قراءة النص التراثي" المنشور بمجلة التفاهم بمحاولة لإيجاد طريقة صائبة للقراءة تضع النص في حقله الدلالي الصحيح والمثمر دون أية إحالات خاطئة.
يقوم الحفيان في بداية دراسته بتعريف النص بأنه قراءة جرى بوساطتها توليده وانتقل من طور القراءة إلى القرائي. وذكر الكاتب بأنّه سيستخدم مصطلح "قراءة" وليس "تحقيق" لكشف ملابسات النص، وذلك للخروج من قيود المصطلح الأخير. ويذكر الحفيان أنّ القراءة أو القراءات في السياق الذي يتحدث فيه هي بناء جديد للنص التراثي الذي عدت عليه عوامل كثيرة طبيعية وبشرية، فخلخلته، وغيّرت صورته الأولى (التاريخية) التي كان عليها يوم صدر عن صاحبه.
وعن "التأصيل اللغوي" للقراءة، يشير الباحث إلى أنّ هناك تشابهًا بين القراءة والكتابة وذلك في الجمع والاجتماع وفي عنصر اللغة أيضًا، إلا أنّ الاختلاف يكون في أنّ الأول مسموع والثاني مقروء ومرئي مثل مشاهدة الأفلام. ويقصد الكاتب بالجمع والاجتماع تلاقي المستوى الأصغر كوحدة لغوية مثل الكلمة والتي لا فائدة منها عندما تكون مفردة، إلا أنّها تكون مفيدة حين تكون في جملة. أمّا في الوحدات اللغوية الكبرى فإنّها تتحول إلى فكرة، ومن خلالها ندخل إلى السياقات المعرفية والظرفية للنص.
أمّا بشأن "التأصيل التاريخي" للقراءة فقد قسّمه الكاتب لعدة مصطلحات:
- القراءة مصطلحا علميا: ومن ضمنها القراءات القرآنية منسوبة إلى النبي. وهناك قراءات صحيحة ينبغي أن تتوفر فيها ثلاثة شروط: صحة السند، موافقته للعربية، وموافقته للرسم العثماني. وهو هنا مشابه للنص الحديثي أيضا. ولمصطلح القراءة عنوان آخر وهو السماع.
- القراءة مصطلحا تعليميا: ويقصد به تلك القراءة القائمة على التلمذة لأحد الشيوخ.
- القراءة مصطلحا للتعامل مع النص: وهو القريب من مفهوم التحقيق، ويعني الإجازات مثل إجازة السماع وإجازة النسخ وغيرها.
ويتطرق الكاتب إلى موضوع "قضية القراءة" من خلال تحديد ثلاثة معانٍ للفظ القراءة: وهي أن تكون بالعين واللسان مقابلا للكتابة، وثانيا فهم النص من القراءة وتأويله، وأخيرا التوقع والاستشراف لأفق أمر أو قضية. ويلمّح الكاتب إلى أنّ المعنى الثاني قريب أو متداول في عالم الفلسفة والحداثيين لأنها تتجه إلى روح النص وفهمه. إلا أنه وعلى الرغم من تحديد الكاتب لهذه المعاني الثلاثة للفظة القراءة تجده يستدرك القول بأن قراءة النص التراثي لا تعتمد على هذه المعاني المذكورة!
وعليه، يؤكد الحفيان على "خصوصية قراءة النص التراثي". فمن سمات النص التراثي أنه ماضوي وليس عصريا، ويتطلب العمل به وليس فقط لمجرد الفهم، والعمل فيه متشعب لطبيعته التاريخية إذ يتطلّب توثيقا للعنوان والمؤلف ضبطا وترقيما وتصحيحا، والتعريف بالمؤلف وتقديمه والكشف عن مناهجه. والقراءة أنواع:
- قراءة الاستكشاف: وهي تستكشف القراءة والملامح العامة وتتوقف عند الخطوط العريضة وتتحسّس المزايا والعيوب دون تعمّق، وتطرح أسئلة عن صحة عنوان النص؟ ومؤلفه؟ والعلاقة بينهما؟ وهل هو نص مكتمل.
- قراءة التكشيف: وتقوم هذه القراءة على تفكيك النص إلى جزئيات صغيرة تصب في الكشافات.
- قراءة الدرس: وهي تضع النص في سياقها المعرفي والتاريخي، وتستبطن النص وتضع صورة عامة عنه.
- قراءة النقد والتحقيق: وتعد هذه القراءة من أطول القراءات وأهمها.
ويضع الكاتب آليات وأدبيات للقراءة أهمها: 1- الوعي بطبيعة النص التراثي: فهو ليس قصيدة أو قصة أو مقال، وإنما هو علم ومعرفة جاءا من الماضي. 2- الوعي بطبيعة التحقيق والمراحل التي مر بها: وذلك بالاطلاع على الأعمال التقنية والإجرائية، والتوثيقية، والتحقيقية، والببلوجرافية، والبحثية الصرفة. 3- الوعي بأن المكتبة العربية واحدة: أي أن الأسلوب الكتابي واحد ومتجانس. 4- استصحاب نصوص المؤلف الأخرى: وذلك حتى تتم معرفة كامل فكرته دون تجزئة. 5- استصحاب النصوص التي تتفق معه في الموضوع أو المحتوى العلمي: ذلك أن النصين ينتميان إلى زمن واحد ومكان واحد. 6- عدم التوقف كثيرا عند المشكلات التي تعرض أثناء قراءة النص.
