الموروث الديني غير مقدَّس

أم كلثوم الفارسي

قد يبدو عنوان المقال مُستفِزًّا للكثيرين، لكن دعونا نفند هذه الفكرة في ضوء الدعوات المتزايدة لإقحام الموروث في صورته المبالغة في الحياة السياسية والثقافية؛ حتى نتنبه لخطورة الاستعمال الخاطئ له واستجلاء انعكاساته السلبية في جل الميادين. ندعو إلى ذلك، لأنَّنا نراه يقودنا إلى انسداد آفاق التغيير النقدي الإيجابي، ويقف حائلا دون بلورة حلول إبداعية. إنَّ انتشار أفكار مُوغِلة في التقليد والاكتفاء بإحياء مقولات نبتت في تربتها المجتمعية والتاريخية اللصيقة بها، تحت شعار معبَّأ بالإيديولوجيا وعصر السلف الذهبي، يمنعان تشكل مساحة نقدية يُمارس فيها الأحياء سلطانهم على راهنهم، ويفتحون بها مسلكا نحو المستقبل. فمِثل هذه المقولات والأفكار والشعارات، تتعارَض مع شروط ظهور الفكر الإيجابي الساعي لا إلى الإصلاح فقط، ولكنْ إلى التغيير النوعي في طرائق التعامل مع مكتسبات التاريخ. والفكر الإيجابي -كما نفهمه- هو ذاك الذي "يتصدى لحقائق العصر الذي ينتمي إليه بالتحليل والتفسير والتقويم، ويسعى للكشف عن عناصر التقدم ومساندتها وعزل عناصر التخلف ومحاربتها".

 

هذه الفكرة التي تناولها الكاتب وليد صالح في مقاله "الاعتراف بالموروث الديني القديم: برهان الدين البقاعي أنموذجا"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، نطرحها هنا في هذا المقام بشيء من التفصيل؛ حيث لا أقصد بالموروث الديني في هذا الموضع "ذلك الموروث الذي عادةً ما تحتفظ به أيةُ أمة كجزء من منظومتها الثقافية، وتتناوله كمعرفيات تراثية أو كقيم معرفية أو كفلسفات روحية، مجردة، بالتالي، من سلطة الاستحواذ والهيمنة والتوجيه والوصاية"؛ بل أقصد به الموروث الديني المتداوَل في العقل الجمعي وفي البيئة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي عمومًا -ذلك الموروث الذي لم يزل يحظى بسلطة التوجيه والوصاية وسلطان الأمر والنهي، ويستمد مشروعيتَه في الوصاية والهيمنة والتوجيه والحاكِمية من كونه لم يزل يتميز في الصورة الذهنية الشعورية والعقلية الثقافية الإسلاميتين، بالطابع اللازمني، الأبدي، اليقيني والغيبي والمطلق. وعليه، فهو الموروث ذاته الذي لم يزل يحدد للفرد المسلم ماهيةَ وجوده الكياني والحياتي، ويتدخل في تشكيل ثقافته وقناعاته وأخلاقه وشعوره وسلوكه، وحتى هيئته الخارجية؛ فالموروث الديني انطلاقا من هذا الطرح الأيديولوجي/الإحيائي لا يكون إلا في علاقة تنافر وقطيعة مع التحولات الزمانية والمكانية والتاريخية. ودون الإسهاب في استقراء الأسباب، نقول لقد ساد في المتخيَّل الجمعي الإسلامي فكرة انحباس الموروث في حقبة زمنية خارجة عن سياق التاريخ وتبدلاته. ووفر هذا التصور إمكانات واسعة ثقافيا لارتقاء الموروث إلى مرتبة القداسة في الذهنية الإسلامية. عين له طبيعةَ علاقته مع "الآخر" ومع عالم الأشياء من حوله.

ونذكُر هنا -على سبيل المثال- برهانَ الدين البقاعي صاحب كتاب "نظم الدرر في تناسب الآي والسور"، إنَّ هذا الكتاب ليس فقط عن المناسبات في القرآن الكريم، بل هو أيضا أول كتاب تفسير في العالم الإسلامي -وللأسف لا يزال وحيدا في هذا الشأن- استعمل فيه المفسر المسلم كتب أهل الكتاب؛ أي التوراة اليهودية والإنجيل للنصارى، لتفسير ما جاء في القرآن عن أهل الكتاب من قصصهم وأحوالهم وعاداتهم وطقوسهم؛ فقد اعتمد في تأويل كثير من آيات القرآن على الكتاب المقدس (وليست الإسرائيليات)؛ فالبقاعي كان ينقل من نسخة بين يديه نصوصًا كاملة يشفع بها تأويلات الحرالي للنصوص، بل وقد تقدم البقاعي في التعامل مع نصوص الكتاب المقدس، وقابل بين عدة نسخ، ووجه نقدًا لإحدى هذه النسخ. هذا الانفتاح -هو انفتاح بلا وجل وبلا مواربة- كان حدثا دينيا غير مسبوق في تاريخ التفسير الاسلامي. ولا يخفى على قارئ تاريخ الفكر الإسلامي الهجوم العنيف الذي تعرض له البقاعي؛ لأنه سلك هذا المسلك الجديد في تفسير آيات القرآن الكريم؛ حيث اتهم أن مقصده من ذلك التقليل من شأن القرآن وإبراز شأن الكتب السماوية الأخرى، وهذا يؤكد لنا ما يتعرض له الفرد من نبذ ديني حين يرفض التسليم والخضوع لأدبيات الموروث الديني؛ فهو لا يسلم من تجريحه الشخصي، إلى الطعن في شرفه وأخلاقه، إلى عَزْلِه اجتماعيا، علاوةً على حملات التشنيع الإعلامية عليه، تلك التي يتفنن في افتعالها والترويج لها أمراءُ التيار الديني في حق كل مَن لا يجد ما يجبره على الرضوخ لسلطة موروثهم. وقد يصل النبذ الديني، في بعض الأحيان، إلى مستوى التصفية الجسدية والتهديد لحياته! لذلك؛ يتردَّد الكثيرون في خوض غمرة الصراع مع الموروث الديني خوفًا على أنفسهم ومكانتهم الاجتماعية من النبذ الاجتماعي الديني المتوحش لهم؛ ويحصل -والحالة هذه- أن يتخلى بعضُهم عن ممارسة واجبه الإنساني في النقد، وعن حقه في تجاوُز ما لا يراه مناسبًا له أيضًا، لقاءَ القبول بثقافة الموروث السائدة ومسايرتها مسلكيا وثقافيا وشكليا وشعوريا وعرفيا؛ لأنه يجِد سلامته الشخصية في ذلك كله حرصًا، بالتالي، على مكانته الاجتماعية. فالإنسان عمومًا يخشى النبذ الاجتماعي، ويتخوف من مخالفة السائد والمسلم به، حتى لا يجد نفسه يومًا خارج دائرة الاعتراف به مجتمعيا ودينيا.

إنَّ التوغُّل في استقرائنا للخطاب الديني السائد في مجتمعاتنا العربية، يكشف عن "ظاهرة شديدة الغرابة تتمثل في أن الجانب الأكبر والوحيد أحيانا في هذا الخطاب يتصل بالماضي، ويكاد يقف بالسامعين والمشاهدين عند عصر النبوة وعصر الصحابة وقليل من التابعين، حتى صار الإسلام في تصور العامة هو تاريخ هذه الحقبة وحدها... وتلك آفة بالغة الخطورة على جيلنا كله، فقد التوت أعناق هذا الجيل، وهو مشدود أبدا إلى الوراء، منكفئ على الماضي، مشغول بالذات، وحجتهم الحاضرة، فيها أن من يقطع صلته بماضيه لا رجاء له في مستقبله".

ختامًا.. رُبَّما كان طريق الانعتاق من استبداد الموروث الديني ووصايته يكمُن في قدرة الفرد المسلم على تبديد تلك المخاوف والتحرر منها وتجاوُزها، وإلا فإن نتيجة تقديسه وتبعيته الكاملة وخضوعه المطلق لموروثه الديني ستكون وخيمةً عليه؛ لأنه سيمنح كامل الصلاحية والهيمنة لموروثاته الدينية، حتى تستبد بعقله، بقراره واختياره، وبحياته كلها.

أخبار ذات صلة