قيس بن حمود المعولي
انتشرَ الإسلامُ في الأزمنة الوسيطة انتشارًا رهيبًا مُمتدا من السند إلى أقصى الغرب المعروف في ذلكم الوقت وهو المحيط الأطلسي حاليا، ولكن أليس لهذا التوسُّع أسباب جعلته يبدو غير مألوف لسرعة انتشاره وقوة معانيه وتقبله من قبل الناس بصورة جعلت منه الأقوى فكرا ومنطقا عبر الأزمان، ورسوخ دولته عند تمسك مواطنيها بما فيه من قواعد وأسس ومعتقدات؟
إنَّ الفكرَ النبويَّ في بِناء المجتمع والدولة أنشأ الفكر والدعوة والفقه في الأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه مُناقشة بسيطة لمقال نور الدين الخادمي الفكر والدعوة والفقه والدولة في الأزمنة الوسيطة"، والمنشور بمجلة "التفاهم".
إنَّ العملَ بالفكر والتوسُّع به هو السلاح الأقوى؛ لأنه يؤثر تأثيرا مباشرا على العقل والفكر والمنطق والفلسفة، غير أنه يُمثل الحجة والدليل والبرهان الذي يجعل الناس يتمسكون بما رأوا وسمعوا وأدركوا، خصوصا إذا كان مطابقا مماثلا للطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية، وهذا هو الطريق الذي سلكته الدولة الإسلامية لتوسيع نطاقها ونشر دعوتها. ولقد كان هذا واضحا منذ بداية الدولة الإسلامية في المدينة المنورة؛ فقد استعملَ المسلمون الفكر لنشر دينهم وتوسيع دعوتهم، وقد عد الإكراه أمرا مبغوضا في هذا الدين الحنيف. مثل هذا الفكر في بداياته في فجر الإسلام صونا للحقوق وحفظا للمستحقات وأداء للأمانات، وبعد هذه البداية المشرقة التي كان نتاجها إسلام الكثيرين الذين ذكر عنهم في كتب السير والتاريخ تمسكهم وتعصبهم لما كانوا عليه قبل الإسلام، ولكن كل ذلك كان هباء منثورا أمام قوة الفكر الديني الذي توسع وتفتح على العالم بعد انتشاره شرقا في فارس، وغربا في الشام ومصر والمغرب العربي، واختلاطه بأفكار ومعتقدات جديدة في ظاهرها قديمة في فكرها لأن الفكر الإسلامي لم ليبث أن قضي عليه برمشة عين.
لكن الدعوة وحدها لم تكن سبيلا لدحض تلك الأفكار والمنطلقات، بل للعودة في ذلك الزمان وقع عظيم على نشر الفكر الإسلامي، وهي الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة وحفظ العهد وإقامة العدل دون تحيز وتعصب وشطط؛ مما مهَّد الطريق في المقام الأول للفكرة نفسها، وجعل الدعوة تنشر الفكر بصورة غير مباشرة؛ إذ كانت مخفية بين ثناياها، ترسخ في قلوب البشر وعقلوهم دون الحاجة لإيصالها بدرس أو عظة أو خطبة أو مقالة.
إنَّ أسلوبَ الدعوة في الدولة الإسلامية في الأزمنة الوسيطة مثالٌ يُحتذى به في زماننا هذا لردع المساوئ ودرء الفتن التي تنتشر انتشارَ النار في الهشيم وصدود الناس عن الحق الذي أنزل إليهم ولقنوا إياه من قبل من عرفوه وعقلوه وحافظوا عليه، بل واهتموا به اهتمام الأب بابنه والأم بجنينها. الفكرة والدعوة ما كانتا لتنتشرا انتشارا واسعا دون أساس معرفي علمي هو الحجة والدليل والبرهان متمثلا في الفقه، ولو يرجع الناس لينظروا للفقه في ذلك الزمان لوجدوا سماحة الدين التي تمثلت في حسن الجوار وإماطة الأذى والتبسم في وجه الغير والاهتمام بحال المسلم وغير المسلم، والمساواة بين الحاكم والمحكوم، والقائد والجندي كل سواسية دون اختلاف. إنَّ تشعُّب الفقه عبر الأزمنة والعصور والدول الإسلامية المختلفة لم يُؤثر سلبا على انتشار هذا الدين أو التمسك به، بل زاد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم وإسلاما مع إسلامهم وتقوى مع تقواهم وحبا لغيرهم وتماسكا بينهم، بل وزاد فيهم حب العلم والمعرفة، وزادت ثقافتهم؛ لانتشار العلم والفقه والفكر بالدعوة والإحسان والعدل بينهم. كلُّ ما ذكرته آنفا إنما كان من أسس الدولة المسلمة التي هي الأخرى في ذلك الزمان اختلفت فيها الآراء؛ فقد قيل عنها تماسكها وقوتها وتوسعها العظيم، وقيل إنَّها مرَّت بضعف أكثر من قوة، وهون أكثر من شدة، وخيانة أكثر من ولاء، ولكن ذلك لم يتنافَ مع ما حصل في ذلكم الزمان من تدوين وانتشار للعلم والمعرفة والكتب والداووين والمصنفات والحواشي التي حفظت لتلك الدولة: فكرها، ودعوتها، وفقهها، وسياساتها، واجتماعها، واقتصادها، بل كتب لتلك الدولة تاريخ قد وصفه البعض أنه الأقوى في كل العصور، ومنهم من ذكر أنه الأكثر تماسكا على مر الدهور قديمها وحديثها.
إنَّ الدولة المحمدية هي أفضل مِثَال يُقتدى به وينظر ويرجع إليه ويؤخذ منه، قامت تلك الدولة كما ذكر كتاب السيرة على العدل والإحسان والمحبة والمودة والتراحم والتعاطف والتعايش السلمي الذي أسسه المسلمون وطبقوه مع أهل مكة والمدينة وما جاورها من مناطق. إنَّ حبَّ الناس للإسلام في ذلك الزمان أو غيره إنما هو دليل على أنه الفطرة الصحيحة لأن المرء يرى في هذه العقائد ما يحببه لفعل الخير وترك الشر. إنَّ التربية النبوية لأصحاب الرسول -رضوان الله عليهم- نقلتْ للدول الإسلامية فكرها ودعوتها وفقهها، وأنشأت لها دولتها وأسست قواعدها ووثقت بنيانها، وأعطت كل ذي حق حقه، وأعانت على فعل الخيرات وترك المنكرات، كلُّ هذا وذاك كان مصدره القرآن وسنة النبي الكريم الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
إنَّ الدول الآن قد تخلى بعضها عن هذه الثوابت التي تثبت الحق، وترفع الظلم عن الناس، فتجدها تتخبط بين مساوئ الردى، لكنها تعلم علم اليقين أنها لو رجعت إلى ما أنزل الله لوجدت النور ولابتعدت عن الجور، ولأعطي الضعيف حقه ومستحقه، وتكون دول الكل لا دول الجزء الذين يملكون دون عطاء وينفقون دون سخاء، وإنَّني في ذلك لا أذكر إلا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغير الله أذلنا الله".. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
