جماعة من الباحثين
سعيد بوكرامي
يعتبر المجال البحري في العصور الوسطى عالما غامضا محفوفا بالخيال، والأساطير، مضطربا بالأحداث المروعة والمجهولة، التي لا يعرف عنها القارئ المعاصر إلا القليل. كما يشكل أيضًا مجالا مركزيا في الجغرافيا والاقتصاد في ذلك الوقت. بداية من رحلات الفايكينغ إلى الاستكشافات البرتغالية، وصولا إلى مغامرات القراصنة ورحلات الحجاج إلى الأراضي المقدسة، ومن ازدهار الموانئ الإيطالية أو الهانزية " الألمانية" إلى تجفيف المستنقعات الهولندية، في هذه الفترة وبهذه المعطيات المتغيّرة ظهر عالم جديد، بدأ فيه الإنسان يتعلم تدريجياً التعامل مع المحيطات والتعرف عليها عن قرب، مما سهل عليه استكشافها، واستغلالها، لكن سرعان ما تحول الفضول إلى رغبة في الهيمنة، فتحولت إلى مجال للصراعات التجارية والحربية.
يعد البحث الذي بين أيدينا الموسوم بـ" غواصة الإسكندر: الإنسان والبحر في العصور الوسطى" غنيمة معرفية، لأنه من البحوث الجادة والعميقة المعتمدة على أحدث الأبحاث، والمزودة بأمثلة ملموسة، ومصادر موثقة، وبذلك تمكن المؤلفون وبمهارة وسلاسة من استضافتنا في رحلة طويلة ومثيرة، على أمواج التاريخ البحري المضطرب في فترة العصور الوسطى.
يدعونا المؤلفون إلى نقاش مختلف للخطاب التاريخي من خلال اقتراح عمل يضفي طابعا ديمقراطيا على موضوع مازال البحث حوله نادرا حتى ذلك الحين ويتعلق الأمر بعلاقة الإنسان بالبحر خلال العصور الوسطى. يركز الكتاب أساسا على أوروبا، لكننا نجد توغلات في البلدان الإسلامية، ويأتي الكتاب نتيجة مغامرة مجموعة من الباحثين، وهي مبادرة فريدة من نوعها. اتسمت عملية الكتابة بالجدة والإبداع إذ لم يضع الباحثون أسماءهم إلا في نهاية الكتاب، مفسحين بذلك المجال للعمل البحثي الجماعي بحيث أصبحت الفصول منسجمة ومتكاملة وكأنها لمؤلف واحد. كتب إذن مضان الكتاب، دون أن نعرف على وجه التحديد من تدخل في الكتابة وقام بتحرير كل جزء من الكتاب؛ لأن الأولوية كانت للعمل الجماعي الذي يهدف إلى إماطة اللثام عن جوانب مهمة من التاريخ البحري في العصور الوسطى.
ليس الكتاب بحثا فقط بل وسيلة لنشر مناهج البحث المكتسبة، وهو نهج تطوعي من قبل المؤلفين. وهذا يبرز في ما وضعوه من الملاحظات المرفوضة في نهاية الكتاب، والتي لا تستجيب لحاجة القارئ المحتملة إلى الدقة في المعطيات، دون إزعاج القارئ غير المتخصص الذي لا يكون بالضرورة على دراية بالمعدات البحرية العلمية. لكن هذا لا يمنع القارئ من تحقيق متعتين: متعة القراءة ومتعة السفر. في منتصف الكتاب، نجد ملفا توثيقيا من الرسوم التوضيحية الملونة ذات مرجعية دقيقة ومصحوبة بتعليقات موجزة وسريعة تسمح للقارئ بالربط بين النص والصورة. وفي خاتمة كل نص نعثر على خارطة توضيحية، ونأسف لعدم العثور على المزيد من نماذج الخرائط بعد أن ذكرت في المقدمة.
من جهة أخرى، اهتم المؤلفون بإدراج الاستشهادات بانتظام، وبالتالي منح القارئ حق الوصول إلى المصادر النصية، التي عرضت في أبعاد معقولة وبشكل منهجي، بين كل سطرين وخمسة أسطر، حتى لا تثبط عزيمة غير القارئ غير المتخصص، في حين تنفتح الفصول على الدراسات التاريخية والجغرافية للكتاب المعاصرين. وأخيرًا فإن الفضولي والعالم سيجدان في هذا العمل بيوغرافيا لأكثر من مائة وعشرين مرجعا لمواصلة التقصي بأربعة لغات عالمية ومنها اللغة العربية. بحيث نجد أهم الأعلام الإيستوغرافيين في العصور الوسطى في هذا المجال البحثي مثل (ستيفان لوبيك وألبان غوتيي وجان كلود هوكي وكريستوف بيكار وغيرهم) لكننا نستغرب عندما لا نجد ذكرا لبعض الكتب الكلاسيكية مثل كتاب ميشيل مولا " أوروبا والبحر" رغم ذكر بعض المهتمين به مثل فابريس غيزار الذي خصص كتابا هاما حول مياه البحر الأبيض المتوسط من القديم إلى العصر الوسيط. لكن هذا النقص لا يعيب الكتاب إطلاقا، بل هو ثريّ بالمعلومات والمصادر العزيزة المنال.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول متجانسة من حيث الحجم، مسبوقة بمقدمة طويلة تسلط الضوء على مدى تعقيد وثراء الموضوع. يهتم الفصل الأول بطريقة تصور الإنسان في العصر الوسيط للبحر. من خلال لمحة عن تاريخ التمثلات المتعلقة بالفضاء البحري. بحيث كان موضوعا للخوف، في إشارة إلى الطوفان، أو وسيلة للإنقاذ مع مثال اختراق البحر الأحمر خلال النزوح في الكتاب المقدس، وما يثيره البحر من ردود الفعل، أو ما يستدعيه من الفضول، كما يتضح من غلاف الكتاب الذي يقدم صورة الإسكندر الذي طلب تشييد غواصة لسبر أعماق البحر في القرن الثاني عشر. بالإضافة إلى تنوع وتعقيد العواطف المتعلقة بالعالم البحري، يُظهر المؤلفون كيف ينظر الناس في العصور الوسطى إلى البحر ويتخيلون كائناته المتنوعة، من وحوش بحرية، وحوريات بحرية، وحيتان غريبة، ولكن أيضا الكائنات الأقل إثارة للإعجاب، فإنه من الصعب إحصاء الأنواع كلها، مما يجعل أعماق البحر فضاء محفوفا بالغموض والأساطير، ويبدو في الآن نفسه عالما بعيدا ومجهولا عن الناس الذين يعيشون على ضفافه، ومألوفا أيضا بما يستطيعون جلبه من خيرات بحرية.
كان وما زال البحر موضوع تفكير للإنسان، بحيث يتساءل المؤلفون عن خاصية ملوحته وسحره المتجسد في جزره وأرخبيلاته ذات الجغرافية الساحرة والخرافية وخصوصا الجزر البعيدة مثل أفالون بـ "فضائها السحري وتمثلاتها الخرافية" (ص. 45). باختصار، كان يُنظر إلى البحر في العصور الوسطى بتصورات متناقضة فهو خطير ومنقذ في الآن ذاته.
الفصل الثاني يتناول موضوع البحر من الجانب المادي. ويتعلق الأمر بعمليات الملاحة والابتكارات التقنية خلال هذه الفترة. كما يسلط المؤلفون الضوء على المساهمات اللغوية لبحارة الدول الاسكندنافية بخصوص الأسماء التي كانوا يطلقونها على سفنهم البحرية والتي تستخدم الآن في اللغة اليومية، ولكن هي من أصول شمالية. تقدم القوارب وفقا لأصولها الجغرافية، مثل اللانغسكيب المجهزة برأس التنين والتروس ذات الرسومات متعددة الدلالات الخاصة ببحر الشمال، أو القوارب والسفن ذات الاستعمالات العسكرية والتجارية، في البحر الأبيض المتوسط. داخل هذين الفضاءين، حاول الصناع تسهيل القدرة على المناورة، لتمكين الملاحين من النجاح في مهماتهم، من خلال الاختراع الرئيسي للدفة الصارمة، المثبتة على الأُسُط. يظل فن الملاحة عملاً تجريبياً كان في الأساس عبارة عن ملاحة على السواحل، ولم يتوغل في المحيطات حتى ظهور الخرائط الملاحية في القرن الثالث عشر التي مكنت الملاحين من الإبحار بدقة عالية.
كذلك اهتم المؤلفون بالحياة في البحر، أي الحياة اليومية للبحارة، التي لم توثق، للأسف، بشكل جيد، باستثناء حكايات الحجاج التي وردت في عدد من المصادر. ويتحدث الكتاب عن بعضها، كما يورد حيزا للحديث عن طاقم السفن، الذي يجب أن يكون في حالة من الانضباط الصارم، ويتكون في الغالب من الذكور. بالإضافة إلى المجندين، نجد أفرادا من المتخصصين: الموسيقيين، والحلاقين، والنجارين، إلخ. أما النظام الغذائي فهو بسيط ويعد أساسا من المنتجات غير القابلة للتلف نظرا لطول فترة الرحلة. ويأتي الحديث بعد ذلك عن مخاطر البحر المنتشرة في كل مكان من (الأمراض، وتحطم السفن) وتظهر الوثائق أن الطابع الديني يطغى على طقوس طواقم السفن ويبرز كذلك في الأسماء المرتبطة بالعقيدة التي تطلق على السفن. ويتوقف المؤلفون عند ظاهرة العنف المتمثلة في الغارات النورماندية، التي شاركت فيها المرأة بشكل استثنائي، وأعمال القرصنة في البحر الأبيض المتوسط مما جعل البحر مصدرا للثراء، لكل من الفقراء والنبلاء على حد سواء، كما هو الحال مع لويس دي لا ترمولي، أميرال لاغويان في نهاية القرن الخامس عشر.
يتطرق الفصل الرابع إلى الموارد البحرية، حيث يستعرض المؤلفون مختلف الأنشطة والثروات المستمدة من البحر من طرف الإنسان في العصور الوسطى. ويحتل الصيد مكانة بارزة؛ فهو ضروري أثناء الصيام أو الصوم الكبير، ويتم البحث عن الأسماك بعد ذلك في الصيد الساحلي (على سبيل المثال في منطقة البروتان) وفي الصيد على مسافات بعيدة (حتى غاليسيا)، بحيث نظمت المعارض السنوية منذ القرن الثالث عشر، وهذا ما دفع السلطات الحضرية إلى تنظيم النقل البحري لمسافات طويلة لأغراض صحية، كما هو الحال بالنسبة لروان في عام 1422. كما يتم استغلال البحر لمنتجاته القيمة: الشعاب المرجانية واللؤلؤ والحبار الأسود... إلخ. باختصار كان البحر مصدر طعام بالنسبة لسكان العصور الوسطى.
يبين فصل "المرافئ والمجتمعات الساحلية" التغير الديموغرافي والطوبوغرافي للمجتمعات والمناظر الطبيعية المرتبطة بالبحر، والذي ينبثق من استغلال الموارد البحرية المحيطة بالموانئ، التي تعمل كواجهة للمدن، ولهذا السبب غالباً ما تقع عند مصب الأنهار، مثل روان وهامبورغ، وأحيانًا ما تتميز بقربها من أحد الجسور كما في مدينة نانت، مما يجعل المدينة ملتقى طرق تجارية. وقد شهد ازدهار أنشطة الموانئ إنشاء مدن جديدة، مثل لوبيك وريغا في القرن الثاني عشر، وظهور مراكز سياسية وتجارية، بما في ذلك البندقية، التي تطورت تجارتها البحرية وعرفت ازدهارا لا مثيل له.
وفي هذا السياق يسوق المؤلفون مثال مدينة جنوى، التي شهدت في العصور الوسطى طفرة اقتصادية مع مطلع العام 1000، من خلال العدد الكبير من المنشآت الحضرية الكبيرة التي شغلت مساحات شاسعة، مما دفع السلطات إلى إصدار لوائح التخطيط. وبذلك أضحى الميناء معبرا ضروريا ونقطة عبور للبضائع، وهو أيضًا نقطة عبور للإنسان: المهاجرون من صوب والتجار يحتشدون مع الحجاج، مما يجعل فضاءات الموانئ أماكن للاختلاط اللغوي وربما العرقي. ولكن في هذه الفترة كلما تزايدت الكثافة السكانية، ازدادت الشكاوى من التلوث الصحي، ويقدم المؤلفون مثالا بميناء عكا في فلسطين عام 1185. ونجد في الكتاب أيضا فئات اجتماعية ظهرت مع ازدهار النشاط البحري مثل الصرافين والمصرفيين، وهي شخصيات لا غنى عنها للتجارة في القرن الثاني عشر لتعاملهم مع أموال البنوك وسندات الصرف. وأخيرًا، تتم الاشارة إلى التعديلات التدريجية في المشهد الساحلي بسبب استغلاله، ودينامية اشتغاله مما انعكس أيضا على محيطه الجغرافي.
يهتم الفصل الأخير بموضوع ملكية البحر، بحيث يعتبرها المؤلفون مسألة شائكة وقد انعكس الصراع حول الملكية في عدد كبير من المعارك البحرية العنيفة، التي وقعت هنا وهناك. كما حاولت بعض الدول فرض نظام جبائيّ على التجارة البحرية، لكن دون نجاح كبير، لا سيما بسبب تعقيدات الاختصاصات القضائية. وكذلك، كان من الصعب على جميع القوى السياسية وضع تشريع عام لتنظيم العلاقات في البحر، باستثناء المشاورات والاتفاقات بين بعض المدن البحرية، كما هو الحال بين هامبورغ ولوبيك في عام 1259.
باختصار، حافظ هذا الكتاب، الذي يطمح إلى أن يكون متاحًا للجمهور العام، على وعوده. ومع ذلك، لاحظنا ورود بعض المصطلحات التي لم تفسر أو توضع لها إحالات مرجعية وهذا الأمر غير مبرر كما أنه حجب بعض الشيء الوضوح المنهجي للكتاب، على الرغم من العناية الدقيقة بأسلوب الكتابة التاريخية، الواضحة والمتاحة للقراء غير المتخصصين. ويمكننا القول في الختم أن توحيد ثلاثة عشر باحثا في خطة عمل بحثي صعب واستثنائي ضمن موضوع واحد يعد إنجازا أكاديميا مميزا. وهم على التوالي: ماري أنطوانيت ألامينياك، فلوريان بوسون، توبياس بيرستاد، يوأن بويديس، ماكسيم فولكونيس، نيكولا غرنيي، فيفيان غريفو جينيست، بولين غوينا، كاترين كيكوشي، أن كوكب، ماري كريستين باين، ماركو روبيتشي، وليزا سانشو.
إن قارئ الكتاب لن يشعر إطلاقا بأن العمل جماعي بل سيخوض فصول الكتاب وموضوعاته المرتبطة أساسا بعلاقة الإنسان بالبحر في العصر الوسيط وكأنه يقرأ كتابا ألفه باحث واحد. كما تجدر الإشارة إلى أن الكتاب درس منهجيّ، يقتدي به كل منخرط في البحث الجماعي داخل الشعب والمختبرات والورشات البحثية الأكاديمية.
--------------------------------------------
عنوان الكتاب: غواصة الإسكندر: الإنسان والبحر في العصر الوسيط
المؤلف: جماعة من الباحثين
الناشر: Vendémiaire باريس فرنسا
سنة النشر: 2018
الصفحات: 216 ص
اللغة الفرنسية.
