مينو سخيلتهاوزن
سعيد الجريري*
هذا كتاب عن الطبيعة في المدينة، اشتغل فيه الباحث مينو سخيلتهَاوزن أستاذ علم الأحياء التطوري في جامعة لَيْدن الهولندية، على كيفية تحكم التحضر في تطور الطبيعة والحيوانات، وكيفية تكيف الطبيعة مع البيئة الحضرية، منطلقاً من آليات مجاله العلمي الذي يُعنى بدراسة الكائنات الحيَّة (أسلافاً وأخلافاً) وتطورها عبر الأجيال، وتكاثرها وتمايزها عن بعضها بعضاً عبر الزمن.
ولِما لسخيلتهاوزن من عمق في دراسة التنوع البيولوجي والتطور البيئي، فقد صدرت كتبه وأبحاثه العلمية في ترجمات بلغات عديدة كالألمانية، والصينية، واليونانية، واليابانية، والفرنسية، والإيطالية، وصدر كتابه (داروين في المدينة Darwin in de stad) باللغة الإنجليزية في كل من بريطانيا وأمريكا، عدا عن ترجمتين إلى الألمانية واليونانية، وخمس طبعات بالهولندية في عام واحد، وقد حظي جهد سخليتهاوزن بتقدير علمي رفيع، فنال كتابه هذا جائزة يان فولكرز لعام 2018، باعتباره أفضل كتاب هولندي في الطبيعة. يتألف الكتاب من تمهيدٍ، تليهِ أربعةُ فصول رئيسة تتفرّع في ثمانية عشر مبحثاً حاول المؤلف أن يقدم من خلالها المفاهيم التطورية والبيئية المعقدة لجمهور عام غير متخصص، فقد استهل سخيلتهاوزن كتابه بإحاطة عن ضاحية المدينة مدخلاً منهجياً لمقاربة موضوع البحث والدراسة، ثم جعل الفصل الأول عن حياة المدينة، حيث الإنسان المسؤول الأول عن هندسة النظام البيئي بشكل بهائي، والبيئة المُحيطة به في مركز المدينة حيث أهل المدينة والمناطق الحضرية الذين يتعايشون مع أنواع شتى من الحيوانات والنباتات، فيما عرض في الفصل الثاني مشاهد المدينة، والحقائق التي رآها عن الأساطير والخرافات السابقة عن بعض الأنواع كالحشرات، مقارناً مثلاً بين فأر الغابة وفأر المنزل، معرّجاً من ثم على المدينة الكبيرة حيث الأضواء الساطعة التي تُمثل بيئة جديدة تتفاعل فيها أنواع معينة، على عكس النمط الذي كان في بيئتها الأصلية خارج المدينة، حيث العتمة الملائمة لوجودها، وقدم في الفصل الثالث عرضاً شائقاً عن ترويض الذات، وجوّالي المدينة، وكذا الجنس والمدينة، في سياق تطور الأنواع وتكاثرها، أما الفصل الرابع والأخير فقد خصصه لـ"مدينة داروين"، حيث يكون "التطور في عالم متشابك"، وفق آليات معينة اشتغل عليها في بلورة رؤيته البحثية في الكتاب، ثم ختم الفصل بـ"تصميم تطوري".
يحتوي الكتاب على قيمة علمية تمثل امتداداً منهجياً متطوراً لنظرية عالم الطبيعيات البريطاني تشارلز داروين (1882-1809)، التي ضمّنها كتابه المؤثر في العلم الحديث (أصل الأنواع On the Origin of Species ) الذي يمثل إحدى ركائز علم الأحياء التطوري، والذي أثار- منذ صدوره عام1859 ومازال - جدلاً عظيماً في الأوساط العلمية والفلسفية والدينية، حيث ظلت نظريته التطورية غير مقبولة حتى عام 1940، لكنها أدت، بعدئذٍ، دوراً رئيساً في تطور البحث العلمي، خاصة بعد اندماجها مع العلوم الأخرى كالوراثة والأعصاب والبيولوجيا وعلم النفس ... إلخ، وتم تطبيق مفهوم "البقاء للأصلح Survival of the fittest" - الذي ابتكره الفيلسوف الإنجليزي هيربيرت سبينسر، واستعمله داروين في نظريته لإيضاح عملية الانتخاب الطبيعي - إلى جانب مفاهيم النظرية الأخرى على العديد من النظريات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتجارية التي تتحكّم بالسوق المالي للدول الكبرى، وغيرها.
ولئن كان هناك سؤال منطقي حول ما إذا كان للإنسان تأثير حقيقي على الحياة نفسها، وعلى التطور من حيث هو، فإنَّ المؤلف يرى أن الإنسان هو مهندس نظام الطبيعة البيئي في شكله النهائي، مبيناً عمليات التطور في الظروف الطبيعية التي يحدث فيها التغير، ولا سيما في المدن، وكيف تتكيف الكائنات الحية بسرعة مع البيئة الحضرية. فهذه الظروف البيئية الجديدة تدفع الأنواع إلى التكيف إذا ما أرادت البقاء في بيئة متغيرة. لكن أنواع المدينة تختلف، بعض الشيء، عن الكائنات الأصلية في البيئة الطبيعية، ولتبيان ذلك يقدم المؤلف صورة واضحة لما يعنيه التطور من خلال أمثلة رائعة من الانتخاب الطبيعي، على خصائص مختلفة، مثل: اللون، علم وظائف الأعضاء، والسلوك.
لكن ماذا يحدث للطبيعة عندما ينتشر التحضر أكثر فأكثر؟ وفقاً لسخيلتهاوزن يمكن للطبيعة أن تسلك اتجاهًا منطقيًا واحدًا فقط، هو اتجاه المدينة، ونتيجة لذلك، يأخذ التطور دوراً جديداً بوتيرة سريعة للغاية، على عكس الاعتقاد السائد؛ فحيوانات المدينة، مثلاً، تصبح أكثر جرأةً، وتتطور الأعشاب الضارة في الشارع إلى نباتات جديدة. أي أنها تتطور إلى نوع جديد تماماً، إذ يبدأ فصل جديد في تطور الحياة على الأرض، فصل لا يختفي فيه التنوع البيولوجي فقط، وإنما يشهد حيوانات ونباتات جديدة، بحيث يحدث شكل من أشكال التطور، بمعدل مذهل لم يكن يحلم به داروين نفسه.
وتتعدل شروط البقاء على قيد الحياة في المدن، فالمدينة في نظر سخيلتهاوزن ليست أرضاً بيولوجية، بل على العكس، فهي أشبه بمختبر نابض بالحياة، حيث تجري تجارب تطورية مُختلفة، بحيث لا يُمكن لجميع الأنواع البقاء، إلا إذا أحسنت التأقلم. فالتكيف المسبق - بما هو امتلاك خاصية موجودة بالفعل - شرط حيويٌّ رئيس، يساعد على البقاء في المناطق الحضرية. وإذا ما نجت الأنواع من خلال ذلك التأقلم في المدن، فيُمكن أن يحدث الانتخاب الطبيعي، من حيث هو تمايز غير عشوائيّ وآلية رئيسة للتّطور، فعلى سبيل المثال: يتطور حمام المدينة أكثر بعد التأقلم، بالتكيف مع الظروف الملوثة، فبسبب التلوث، والمصانع، والمعادن الثقيلة التي يستقبلها حمام المدينة، يكون ريشه أكثر دكنةً، مقارنةً بالحمام الذي يعيش في ظروف طبيعية خارج المدينة، ويحتوي الريش الداكن على خلايا تحتوي على المزيد من الميلانين، ونتيجة لذلك، فإن الريش الداكن أكثر ملاءمة لحمام المدينة، وهو يتطور إلى حمام داكن أكثر مقاومة للمعادن الثقيلة، مع ملاحظة أن هناك أنواعاً وراثية لكل من الريش الفاتح والداكن، فعندما يكون هناك تغيير في البيئة المعيشية، يمكن أن تكون المتغيرات الجينية المؤاتية موجودة بالفعل في النوع.
هذه المتغيرات المؤاتية ستحدث بعد ذلك على نحو متكرر، وهذا ما يسمى بـ"التطور الناعم" الذي يرتبط غالباً بالتغيرات الطفيفة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يحدث التطور الحضري أيضاً بسبب طفرات جديدة، وهي التي يُطلق عليها "التطور الصعب". وهذه الطفرات هي تغيرات في الحمض النووي تنشأ في الجينات بالمصادفة. ما يعني أن الطفرات يمكنها تغيير الجينات، بحيث تتغير خاصية ما أيضاً. فالاختلاف الجيني ينشأ تحت ضغط من التغيرات في البيئة، وهذا أمر مؤكد، يشرحه سخيلتهاوزن بطريقة رائعة تبين كيفية نشوء هذا الاختلاف واستمراريته أيضاً، وكلما كانت تلك الخاصية المشار إليها مؤاتية للبيئة المعيشية، كان للأفراد الذين لديهم هذه الخاصية فرصة أكبر للبقاء.
ومن المهم، للحفاظ على التنوع البيولوجي، الحفاظ ُعلى الموائل الطبيعية قدر الإمكان، مع إدراك أهمية الدور الإنساني في التطور الحضري، فالتطور- يقول سخيلتهاوزن - لا يستغرق وقتاً طويلاً دائماً، فلا يتعين عليك، لكي ترى التطور، أن تسافر في الآفاق، أو تنكبّ على دراسة الحفريات مثلاً. فعملية التطور قريبة جداً، فمع المدن والطرق والبنى التحتية الأخرى، يتم إنشاء مجموعة كبيرة من الموائل لأكثر أنواع النباتات والحيوانات تنوعًا، التي تستقر هناك ومن ثم تتكيف مع بيئاتها الجديدة. وعندما تصبح هذه التعديلات متأصلة في جينوم الحيوانات ومن ثمَّ قابلة للوراثة، يكون هناك تغيير تطوري.
وفي السياق التطوري يشير المؤلف إلى أن التنوع البيولوجي في المدن كبير ومتزايد. فعلى سبيل المثال: كان يوجد في مدينة بلزن التشيكية، في نهاية القرن التاسع عشر 478 نوعًا من النباتات، وهو العدد الذي ارتفع إلى 595 نوعاً في الستينيات، حتى صار 773 نوعاً الآن. فهذه زيادات كبيرة. ما يعني أن التنوع البيولوجي في المدينة هو الآن أكبر منه خارجها في كثير من الأحيان، وهو ما يعززه أيضاً تدهور الأنواع في المناطق الريفية.
لعل سخيلتهاوزن بهذا الجهد العلمي يثير فضول القارئ المتخصص والعام على حد سواء، من جهة، ويعيد الاعتبار العلمي لنظرية داروين عن نشوء الأنواع وتطورها، إذ يثبت أن عملية التطور ليست طويلة الأمد، وإنما هي متسقة مع تصاعد المد الحضري، ففي المستقبل، ستعيش ثلاثة أرباع البشرية في المدينة وستشغل البيئة الحضرية المزيد من المساحة، وهناك حاجة إلى جزء كبير من بقية سطح الأرض للزراعة، فأين تذهب الطبيعة حينئذ؟ إلى المدينة. فيستنتج سخيلتهاوزن أنه عندما تذهب الطبيعة إلى المدينة، يأخذ التطور دورة منفصلة. وبفضل التكيفات التطورية التي تحدث بسرعات فائقة، يصبح الناس والطبيعة الحضرية أكثر تماسكًا بشكلٍ أفضل، ويبدأ فصل جديد في تطور الحياة على الأرض. وفي سياق موازٍ يختفي، لسوء الحظ، الكثير من التنوع البيولوجي، ولكن بالمقابل فهناك أنواع جديدة من الحيوانات والنباتات التي تزدهر حتى في المدينة. وعلى نحو جزئي، بفضل تعديلات محددة على البيئة الحضرية، يمكن أحيانًا العثور على تعديلات في الحمض النووي. ولئن كان كتاب (أصل الأنواع) لشارلز داروين أحد الأعمال المُؤثرة في العلم الحديث، وأساساً من أسس الحداثة الفكرية الطليعية، وأحد ركائز علم الأحياء التطوري، ومازال يقبل عليه، إلى اليوم، القراء الباحثون ذوو الاختصاص والقراء غير المختصين، بعد أن تحولت نظريته إلى نزعة فلسفية شملت حقولاً عديدة، منها علم الأحياء الاجتماعي (السيسيوبيولوجي) - وهو أحد العلوم الحديثة المثيرة للجدل والخلاف – الذي يعلل ظواهر عديدة كالنزعات العدوانية، وحب التملك لدى الكائنات الحية، واضطهاد المرأة مثلاً، فيرجعها إلى أسباب بيولوجية موروثة، فإنَّ كتاب "داروين في المدينة" لمينو شخيلتهاوزن، يمثل إضافة نوعية أفادت في استخلاص نتائجها من تطور المنهجيات والعلوم التي تلت مرحلة داروين، فبنت عليها اشتغالها البحثي والمعرفي. الكتاب بصورة شاملة ثري بالمعلومات الموثقة لتاريخ التطور الحضري الحالي وحالاته، ويقدم وصفاً دقيقاً لعملية تطور الأنواع المختلفة، وما يستتبع ذلك مستقبلاً، وفق منهجية علمية متخففة من الأيديولوجيات، لا تنطلق من تفسير ميكانيكي لمبدأ البقاء للأصلح، ولعل ما قدمه سخيلتهاوزن من نتائج علمية بحتة، تفتح آفاقاً في مجالات علمية أخرى مجاورة ولاسيما الاجتماعية والنفسية في تعليل الظواهر الجديدة المرتبطة بالتطور التقني المهول، لكن ليس على نحو ما تمَّ مثلاً في نظرية الذكاء الطبيعي للحاسوب، إذ نُظر إلى الإنسان باعتباره إنساناً آلياً مبرمجاً بالوراثة أو الاكتساب، بمعزل عن العوامل الاجتماعية والنفسية.
(داروين في المدينة) الذي سيصدر أيضاً هذا العام في ترجمات جديدة، لا يقارب موضوع بحثه من منظور التعليل الديني للظاهرة، كما هو مؤصل في نظرية الخلق في الديانات الثلاث، فآلياتاته في المقاربة ذات منهج علمي، وتختلف جوهرياً عن منطلقات التصور الديني على ما بين الروايات الدينية من اختلافات معينة.
------------------------------------------
الكتاب: داروين في المدينة
المؤلف: مينو سخيلتهاوزن
الناشر : Atlas contact
سنة النشر : 2018
اللغة: الهولندية
الصفحات: 352
*كاتب عربي مقيم في هولندا
