فينان نبيل *
يحتوى كتاب "الأطفال والعائلات في العصر الرقمي.. التعلم سويا والتشبُّع الثقافي من وسائل الإعلام"، على مشروع بحثي متكامل أجراه عدد من الباحثين في مجال: التربية، والتكنولوجيا، وعلوم التعلم، والإعلام -كلٌّ في تخصُّصه لاستكشاف التفاعل الدينامي بين الأطفال والأسر، والأقارب، والمعلمين في ظل الطفرة الرقمية الحديثة، وما لحقها من وسائل إعلام جديدة. ويبرز الكتاب مختلف الطرق التي توفر بها وسائل الإعلام الرقمية منافذ جديدة للتعلم بشكل فردي، أو جماعي سواء في المنزل، أو المدرسة، والدور الذي تلعبه في إيجاد فرص تعليمية، ومدى تناسب هذا الدور مع حجم الاستثمارات الوطنية، والمجتمعية، والفردية الضخمة في جميع أنواع الأجهزة، والشبكات، والمحتوى الرقمي، فضلا عن التكلفة الأكبر التي يتم إنفاقها على التدريب والخبرة، وإعادة تشكيل البنية التحتية للمجتمع لاستيعابها وتسخيرها للجمهور.
اكتشفَ الباحثون أنَّ هناك بعضَ الأفكار السلبية لدى الآباء عن الوسائل الرقمية تَحُول دون تحقيق الاستفادة القصوى منها في عملية التعلم، من تلك الأفكار أن الروابط العائلية تتمزق والوقت يتبدد على حافة الشاشات الرقمية الشخصية، وأنها تتسبب في سلبية الأطفال، وإهدار وقتهم، ويقتصر دورها على تقديم المتعة والتسلية.
ويسعى مؤلفو هذا الكتاب إلى نشر الوعي لدى الأسر لمجابهة تلك الأفكار السلبية السائدة عن الوسائل الرقمية، ومواجهة جهل الآباء بالتطورات التي طرأت على وسائل المعرفة الرقمية المختلفة، ويسعى الكتاب لإيجاد خبرات إيجابية لديهم حول الفائدة التي تقدمها وسائل الإعلام للجمهور، منها تنوع مصادر التعلم، وتقليص التفاوت وعدم التكافؤ في فرص التعلم.
يُعرَّف الإعلام بأنه الوسيلة الاجتماعية الرئيسة للتواصل مع الجماهير، وله عِدة وسائل مؤثرة على نطاق واسع كالصحف والمجلات، والراديو، والتلفاز، وحديثا الإعلام الإلكتروني الذي يعدُّ من وسائل الإعلام الحديثة التي تعتمد على الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات الإلكترونية من خلال شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، وأية وسيلة أخرى من الوسائل القائمة على المعلومات الرقمية.
وتختلف وظائف الإعلام بين المجتمعات، ومن أهمها تحقيق التنشئة الاجتماعيّة عن طريق توفير المعرفة المُناسبة للأفراد؛ ممّا يُسهم في تعزيز تفاعلهم مع المجتمع، ومشاركتهم في الأحداث العامّة، ويُؤدّي ذلك إلى تطوّر وعيهم الاجتماعيّ، إضافة للتربية من خلال تعزيز التطوّر العلميّ والثقافيّ، ونشر المعرفة.
بدأ فريق العمل في مشروع هذا الكتاب عام 2013 "في شكل مجموعة من الأبحاث التي تتعلق بالثقافة العائلية، والقيم، والممارسات، والطرق التي تستخدم بها الأسر والأطفال وسائل الإعلام الرقمية، وكيف يمكن أن تعزز التعلم والعلاقات الأسرية من منظور جديد دقيق قائم على التجريب في سياقات اجتماعية واقتصادية مختلفة".
وتقدِّم فصول الكتاب دراسات حالة وأمثلة من واقع الحياة، وتحليلات وبيانات ومسحا على نطاق واسع، وأسفرت عما يلي:
- أولا: إنَّ المشاركة بين الأبناء والآباء تساعد الأسر على استخدام الوسائط بشكل أذكى، ففي استبيان عبر الإنترنت تم إجراؤه على ألف وخمسمائة وسبع وسبعين أسرة، مع التركيز على من لديهم أبناء من الفئة العمرية من عامين حتى اثني عشر عاما، إضافة لسبع دراسات ميدانية على أسر من السود، ومن الأصل اللاتيني-الإسباني في أماكن تجمعهم بالولايات المتحدة الأمريكية، حول كيفية استخدام أبنائهم الوسائط التعليمية، ومدى تأثيرها عليهم. ومن خلال الدراسات، ظهر اختلاف في رؤية أولياء الأمور بشأن المنافع والأضرار الناتجة عن التكنولوجيا؛ إذ يشعر 51 % منهم بتفوق المنافع على الأضرار عندما يتعلق الأمر باستخدام الطفل البرامج وممارسة الألعاب عبر الهاتف المحمول، عند استخدام الطفل الشبكات الاجتماعية بنسبة 26%، وتتساوى المنافع والأضرار عند 31% من أولياء الأمور، وبشأن تأثير المدرسة في جمع الطلاب للمعلومات من خلال التكنولوجيا وزيادة تحصيلهم الدراسي وتعديل سلوكهم، جاءت نسبة تفوق المنافع على الأضرار بنسبة 53%.
ويعدُّ هذا البحث امتدادا لدراسات أخرى تمت في العام 1970م حول "التلفاز"، وكان يعد آنذاك وسيلة الإعلام الأهم؛ فقد أثبتت تلك الدراسات أن الأطفال الذين يستخدمون التلفاز لأغراض تربوية وتعليمية مع البالغين من الأسرة يكون تعلمهم أكثر فاعلية ممن يستخدمونه بمفردهم، وإلى مثل هذه النتائج وصل "ستيفنز وبينويل "أحد باحثي هذا الكتاب، مستخدما "تجارب تلقائية، وأخرى مصممة للأسر التي تستخدم الوسائط الرقمية معا سواءً في اللعب، أو البحث، أو القراءة، وماذا يقول أفراد الأسرة لبعضهم وهم يشاهدون التلفاز أو يلعبون الألعاب الرقمية، أو يتصفحون شبكة الانترنت، مع التركيز على التفاعلات التي تتم بين شركاء التعلم أثناء تفاعلهم مع وسائل الإعلام وحولها، وكيف يؤثر التفاعل على العلاقة بين أفراد الأسرة، وأثبتت نتائج البحث أن المشاركة بين وسائل الإعلام تحافظ على استمرار التواصل بين أفراد العائلة لفترات زمنية أطول.
توصَّل الباحثون إلى أن الوسائط الرقمية لها تأثير إيجابي في التعلم وتطوير نمط الحياة إذا تم استخدامها بواسطة الأسرة سويا، فهي تدعم ارتباط الأسرة، وتؤدي إلى الاستفادة من التكنولوجيا بشكل مميز وتمكن الأسر من التغلب على التحديات المختلفة والتي قد تنتج عن الاستخدام المنفرد للأبناء.
ويُؤكد هذا البحث تأثير التنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في الحصول على خدمات كافية فيما يخص التعلم، وأشارت الأبحاث الاستقصائية إلى أن 76% من السكان كانوا من ذوي الأصول الإسبانية البالغين الذين يملكون هواتف خلوية، في مقابل 97% من السود، و85% من البيض، وجدير بالذكر أن البحث أعطى أولوية للاتينيين لأنهم يشكلون نسبة كبيرة ومتنامية من الأسر التي لديها أبناء في سن التعليم الثانوي في الولايات المتحدة.
- ثانيا: يتركز اهتمام الباحثين على تعزيز قيمة وسائل الإعلام الرقمية والوسائط الجديدة في حياة الأسر، وإشراك الآباء في أساليب التخطيط، واهتمامهم باكتساب الوعي بكيفية استغلال تلك الإمكانات في دعم التعلم، واستنتجوا أن وسائل التعلم الرقمية تحقق المساواة بين الأجيال في الحصول على مصادر المعرفة، كما تُمكن الأسر من استكشاف الأخطاء وإصلاحها، وتعزيز التعلم القائم على حل المشكلات، كما يؤدي تعدد التطبيقات لتنوع خبرات التعلم وفقا لمجالات الاهتمام لكل المتعلمين.
وأكَّدت نتائج الأبحاث أن هذه التطبيقات تعزز التواصل بين المدرسة والمنزل، كما تعزز التواصل داخل الأسر نفسها فيؤدي الأبناء دور وسطاء التكنولوجيا والمعلوماتية، وقد يتخذ الآباء أحيانا دور المعلم، ويقوم الشباب بدور الوسيط المعلوماتي لوالديهم، وإيجاد طرق تلخص لهم المعلومات الكاملة من أجل تجاوز الأمية الرقمية لديهم، كما قدم الكتاب كيفية تأثير الأخوة سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر في الأطفال الصغار، وتكون التأثيرات المباشرة في شكل أدوار تدريسية صريحة، وإدخال أشكال جديدة من التكنولوجيا، أو غير مباشرة في تأثيرهم على معتقدات الآباء حول وسائل الإعلام الرقمي الخاصة بالأطفال، وتصوراتهم لمهاراتهم التكنولوجية. ولم يغفل الباحثون دور الإخوة فهم يقومون بدور الحارس على إخوتهم الصغار، ورقباء على المحتوى الرقمي الذي يتعرضون له في كثير من الأحيان، ومواجهة المتطلبات التي قد يحتاجونها في استكشاف اهتماماتهم وإحداث التواصل بين خبرات التعلم.
يَعني ذلك أنَّ بعض الآباء النشطين قادرون على التعامل مع الوسائط الجديدة والبحث عن مصادر المعرفة، وجدير بالذكر أن بعض الآباء يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي -مثل: فيسبوك- للحصول على المعلومات ومشاركتها، ويستخدمونها كإحدى وسائل التفاعل العائلي مما يقدم فائدة تفاعلية مباشرة مع الأبناء، وأثبتت الدراسات أن الآباء والأبناء يتعلمون سويا في جلسات اللعب ومشاركة الوسائط (التلفاز، وألعاب الفيديو والألعاب الإلكترونية... إلخ).
وتُساعد وسائل الإعلام الرقمي أيضا في التعلم مدى الحياة، وفي أوقات كثيرة، وغير متوقعة، فهي تعين المربين في المنزل على تهيئة بيئة داعمة لتعلم أطفالهم، كما تستخدم في الهيئات الأكاديمية والمدارس الوسائل الجديدة لدعم المعرفة الثقافية وتسهيل التعلم الأكاديمي، مع وجود بعض الاستثناءات لأسر ترى أن الوسائط لا تدعم المهارات المدرسية المتعلقة بالمحتوى المعرفي، كما شعروا أنَّ وسائل الإعلام لا تكون قادرة في كثير من الأحيان على أن تكون تربوية وترفيهية في آن واحد.
وأوضَح الباحثون -خلال هذا الكتاب- أهمية الوسائل الجديدة في استيعاب الأبناء الأقل حظا؛ فالوسائط قد تعوضهم ما قد ينقصهم من فرص التعلم داخل المدرسة، وتعطيهم أملا في الحصول على فرص اجتماعية أفضل.
ويؤكد الكتاب على الحتمية التكنولوجية، وكيف أصبحت التكنولوجيا مُوجِّها للسلوك البشري، كما يؤكد أهمية العلاقات الاجتماعية الجديدة القائمة على المشاركة في التعلم سويا عبر وسائل الإعلام الرقمي، وإن كان يصعب التنبؤ بكيفية استخدام الأسر لهذه الوسائل؛ لأنه أمر يتوقف على عدة عوامل تتحكم في طرق توظيف التكنولوجيا لدعم التعلم؛ مثل: قائمة الاهتمامات، والمحتوى، والمشاركة في اللعب، فقد شرح أحد الآباء كيف اجتاز هو وابنه "فضاءات الوسائط المتعددة" في استخدام الكتب، والفيديوهات، والمكتبات عبر الإنترنت. ومثال آخر استفاد فيه الوالدان من تطبيقات الترجمة للمشاركة في مساعدة أبنائهم في واجباتهم المنزلية، وتحسين مهاراتهم اللغوية أيضا. ورغم هذه النماذج الإيجابية التي استطاعت دمج وسائل الإعلام في حياتها والإفادة منها، واجهت عائلات أخرى صعوبة في تحقيق ذلك، خاصة في بعض الأسر ذات الدخل المنخفض ممن ليس لديهم وعي كافٍ بالحصول على مزايا الوسائط الرقمية في التعلم في المنزل؛ فقد شعر بعض الآباء بأنهم مهمشون لأنهم لا يملكون المهارات اللازمة لمراقبة ما يفعله أطفالهم على أجهزة الكمبيوتر المحمول في المنزل.
ويقوم هذا الكتاب على أسس تجريبية، تترك القارئ العادي بين الخوف والأمل، حول عالم التكنولوجيا الذي يزداد تعقيدا بشكل مستمر، وعمل الباحثون لهدف مشترك يتمثل في إنتاج بحث قد يوجه الممارسين من المعلمين وصانعي السياسات ومنتجي الوسائط في تطوير البرامج والسياسات المتعلقة بالتعلم في العصر الرقمي، تلك البرامج التي يستخدمها الآباء في التعليم، والترفيه، وشغل بال أطفالهم، فيما يستخدم الأطفال وسائل الإعلام للعب، والتعلم، والاكتشاف، والتعبير عن أنفسهم، وتجنب الملل، يستخدم كل أعضاء الأسرة وسائل الإعلام للتواصل، والتنسيق فيما بينهم والترابط، والتكافل، بل حتى الانعزال والتحرر من بعضهم البعض.
وسائل الإعلام الرقمية ذات منفعة كبيرة، وتساعد على التنوع وقهر النمطية، وتحفز التعاون بين المدرسة والمجتمع والمنزل في عملية التعلم، وخلق فرص أكثر تكافؤا في بناء الخبرات.
ويُؤمِّن الاستخدام المعتدل للإنترنت، وتقليل مدة البقاء أمام الأجهزة الإلكترونية، فرصة للاستفادة القصوى من وقت الأطفال، وتنشيط ذاكرتهم من خلال ألعاب الذكاء والتركيب وغيرها، فضلاً عن فرص لا محدودة للتعلم واكتساب المهارات المختلفة، وثروة من المحتوى المتنوع الغني، ومنابر التعبير الحر، وتبادل الخبرات.
وختاما.. فإنَّ هذا الكتاب "الأطفال والعائلات في العصر الرقمي.. التعلم والتشبع الثقافي من وسائل الإعلام"، يقدِّم دراسة عن المشاركة بين الأسر وأطفالهم في مجال التعلم الرقمي، فقد طور الأطفال خبراتهم في البحث وتصميم المعرفة التكنولوجية، وأصبحوا وسطاء المعلوماتية في أسرهم، وبات من الأهمية أن يشارك الآباء أبناءهم في وسائل الاتصال حتى يشكلوا دعما لأبنائهم المسحورين بالعالم الفضائي المكتشف حديثا. فقد قدم الكتاب عددا من القصص لأسر كان أعضاؤها في كثير من الأحيان "وحيدين معا"، يقيمون في منزل واحد، وكل منهم في غرفة منفصلة يستخدم الإنترنت من خلال الحاسوب، أو الهواتف الذكية؛ مما قد يهدد الروابط الأسرية على الرغم مما يمكن تحصيله من معرفة، وما يتبادلونه من معلومات؛ لذا كانت المشاركة أمرا ضروريا، وقيمة اجتماعية عُليا.
يهدفُ مشروع البحث إلى إبراز أهمية التفاعل الإيجابي الذي يحدث بين البالغين والأطفال، خاصة في ظل تزايد عدد الأجهزة في المنزل الواحد، بدلا من الاستسلام لمصير مجتمع "وحيد رغم اجتماعه".
-----------------------
- الكتاب: "الأطفال والعائلات في العصر الرقمي: التعلم سويا والتشبع الثقافي من وسائل الإعلام".
- المؤلفون: اليزابيث جي، ولوري تاكوشي، وألين وارتيللا.
- الناشر: روتليدج، الولايات المتحدة الامريكية.
- تاريخ النشر: 2018م.
* كاتبة مصرية
