فيكتوريا زاريتوفسكايا*
لطالما كانت خاصية الطبيعة البشرية وتناقضاتها محطَّ اهتمام العلماء والفلاسفة عبر التاريخ؛ فها هو فيلسوف المثالية أفلاطون يقفُ أمام هذه الخاصية وقفة المتسائل الحيران: لماذا يهفو الإنسان إلى المسرح وظلاله الخيالية، مُفضِّلا إياه عن الحقيقة وضوئها الساطع؟.. يقول مؤلف كتاب "التلاعب بالوعي" مستنبطا كلامه من فيلسوف اليونان: "في الكهف الذي لا يتسلل إليه النور يجلس البشر وهم مقيدون بالأصفاد؛ لقد ظلوا زمنا طويلا وهم يرفسون في أغلالهم. خلفهم ثمة نار تشتعل، وأمامهم حائط حجري، وفي مكان ما يختبئ مشعوذون ويقومون -كما هي الحال في مسرح الدمى- بتحريك أبطال من خشب تحاكي الناس والحيوانات والجماد. يتمُّ تحريك العرائس وترتفع أصداء الأصوات والكلمات في جوف الكهف. أما الناس المقيدون، فمن العسير عليهم أن يلتفتوا إلى الوراء لرؤية النار (أي الحقيقة)، ولا يَسْمَح لهم وضعهم سوى النظر أمامهم والتحديق في الظلال المنعكسة على جدران الكهف. لقد ضلوا عن العالم الخارجي وما يجري تحت شمسه وهم على يقين من أن الظلال التي تتموه على الجدران، والصدى الذي يتردد في الهواء، إنما هي العالم الحقيقي الممثِل للأشخاص والأشياء، وعلى هذه الحال إنما يعيشون" (ص:287).
وبحسب رأي المنظِّر الروسي للعلوم والباحث السياسي سيرغي كارا مورزا، الذي تضمنه كتابه الجديد "التلاعب بالوعي"، فإنَّ مثال أفلاطون لم يتجسد على مر الأزمنة وعبر الأمكنة بدقة متناهية مثلما يتجسَّد في يوم الناس هذا. فبرأيه لم يحدث من قبل أن سيطر جهازٌ على عقول الناس وحبس وجدانهم فيه مثلما يفعل التلفاز (أو ما شابهه) في الإنسان المعاصر؛ هذا الإنسان المستعد أن يُهدر وقتا هائلا من غير أن تفارق عيناه هذا الصندوق (أو الكهف) الكهربائي. يقول المؤلف في هذا السياق: "يُهيِّئ التلفاز مثل هذا الطقس المسرحي لأفراد المجتمع؛ إنه يمتلك ظلالا جيدة الصنع، فيبدو معها العالم الحقيقي باهتا وشاحبا وأقل عافية بكثير من الصور التي تعرضها الشاشة. كما أن الفرد المقيد أمام التلفاز منذ نعومة أظفاره لا يرغب في الخروج إلى العالم الحقيقي، ويضع ثقته الكاملة في المشعوذين الذين يتلاعبون بحبال الدمى (أو الأزرار) (ص:287). إن كتاب "التلاعب بالوعي" بحثٌ في التكنولوجيا المعقدة التي تلجأ إليها حكومات العصر الجديد (والحكومات الغربية خاصة)؛ من أجل السيطرة والهيمنة على مقدرات العالم، وهو بحثٌ يجمع بين الأسلوب العلمي لفهم العالم، وأسس علم الإنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الأخلاق، وعقلانية السياسة والقانون. أما عن التكنولوجيا المشار إليها؛ فهي -بحسب الكاتب- تكنولوجيا رفيعة ودقيقة لدرجة أن شعوب العالم بثقافاته التقليدية، كالمجتمع الروسي على سبيل المثال، مازالت غير قادرة على اكتشاف جوهرها وتقنياتها وأهدافها. والأهم من ذلك أنَّ المجتمع في الثقافات غير الغربية يعتقد أن التلاعب بالوعي ما هو إلا خداع مهين، وسيلته الإغراء، وغايته السرقة، وليس أكثر من ذلك.
يقول الكاتب: "من المؤسف رؤية معظم الناس وهم غير مدركين أنَّ خلف غطاء التلاعب بالوعي يكمن سلاح فتاك يتم من خلاله قيادة مجتمعات بأكملها، وتوجيهها الوجهة التي تضر بمصالحها، قلبا وقالبا" (ص:403).
لا يقتصر سيرجي كارا مورزا -في كتابه- على تقصي البنية الكلية لآلية التلاعب بالوعي؛ باعتبارها تقنية للهيمنة وحسب، بل يطرح أمثلة حية من المجتمعات المعاصرة، وهي في حالة مواجهة مع هذه الآلية. وبالنسبة لروسيا، يلاحظ الباحث أنَّ الرُّضوخ للتلاعب بالوعي سيؤدي بالبلاد إلى طريق واحد لا ثاني له، ألا وهو طريق التغيير الجذري للثقافة القومية وطريقة التفكير الذي سيؤدي لا محالة إلى الإخلال باللغة نفسها. ويرى الكاتب أن تبنِّي نوع جديد من السلطة على المجتمع، أو العكس، أي حماية البنية المجتمعية من التلاعب بوعيها، هو مسألة مصيرية وتاريخية قد تهدد وجود أي شعب من الشعوب.
لقد كان الهجوم الأكثر فاعلية للتلاعب بالوعي في روسيا -كما يذكر المؤلف- هو تلك الحملة التي تم تنظيمها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. وهكذا، ففي غضون عامين فقط (1989-1991) تمكن مؤيدو سياسة إصلاح السوق من إقناع العمال بأن الخصخصة والبطالة الحتمية تتوافق مع مصالحهم. ويعد هذا إنجازا بارزا في التلاعب بالوعي بواسطة التكنولوجيا، حيث لم يتلق العمال في هذين العامين أي نتيجة إيجابية تقنعهم بمزايا الخصخصة والبطالة، ومع ذلك سلموا لما لها بدون مقاومة تذكر.
ويلفت الباحث الانتباه إلى حقيقة أن في المجتمعات التقليدية، مثل المجتمع الروسي، ثمة نقاط ضعف تختلف عن الثقافات الغربية. يقول في هذا الصدد: "في الغرب، يُعد انخفاض الإنتاج بنسبة واحد في المئة أزمة حقيقية تنذر بتغير جذري في سلوك الأفراد، حتى وإن لم يتأثر الفرد بالأزمة تأثيرا مباشرا، إلا أن الخوف يبقى مخيما وماثلا حتى زوال الخطر. أما في المجتمعات التقليدية، فإن الهشاشة تكون السمة الغالبة عند مواجهة التقلبات، ويكون من الصعب عليه إنتاج خطوط دفاع علمية وسليمة. ويكفي الشك في الحياة والسلطة لينقلب النظام السياسي رأسا على عقب (ص:35). ويذكر المؤلف مجموعة من الحالات في التاريخ الروسي تؤيد وجهة نظره ومنها ما أدى لانقلابات درامية في السطلة الروسية. ويشبه المؤلف المجتمعات التقليدية التي تعيش في العالم المعاصر بمستعمرة من البكتيريا والفطريات، تبدو للعيان متكاملة، ولكن بمجرد إطلاق فيروس إلى داخلها تعلن الثغرات عن نفسها وتتضح هشاشة المجتمع، وذلك بعكس المجتمعات المدنية في الدول المتقدمة؛ حيث الفردانية أمر لا شك فيه، وحيث يرتبط أفراد المجتمع بخيوط شفافة تجمعهم بالسلطة، وحيث تطفو الأزمات على السطح بمجرد حدوثها.
ويحدِّد المؤلف بعض الخصائص الثقافية للشعب الروسي مكَّنته من مقاومة التلاعب بالوعي الجماعي. كما يشير إلى مدى إعجاب الخبراء الغربيين بقدرة المجتمع الروسي على المقاومة رغم الضربات التي تلقاها في الحرب الباردة. يُشير الكاتب إلى ذلك: "لم يدمر الإفقار الجماعي المجتمع ولم يسممه، بل كاد أن لا يكون مصدر إزعاج للناس. وخلافا للتوقعات، فإن المجتمع لم يتفكك، وظل باقيا وفقا لقوانين غير مكتوبة ومعايير ثقافية خاصة" (ص:35).
فالفرد الروسي الذي لم يفقد ذاكرته التاريخية، على الرغم من الحروب والكوارث الرهيبة، لا يعاني من خوف باطني من الموت. ومع أن مسألة الموت والخلاص تحتلان مكانًا بارزا في أفكار ومشاعر الشخصية الأرثوذكسية، إلا أن فلسفة الموت كانت ولا تزال مطرزة بالشعور الغنائي والحب للأرض. وإذا ما نحن أبحرنا في الأمثال والموروث الشعبي الروسي، سنُصادف الكثير من المقولات التي تصور الموت كمعادل وليس كماحق للحياة. من بين تلك الأمثال نذكر: "لا تخف الموت إذا كنت تريد الحياة" ، "الموت يأتي مرة واحدة لا أكثر، فلِم الخوف منه".
حتى وقت قريب، لم يكن الخوف الوجودي يلعب دورًا مهمًا في ثقافة روسيا، فقد ركزت الأرثوذكسية والثقافة التي نشأت في تربتها على مسألة الحب؛ مما أعطى مجالًا للفكاك من الخوف الوجودي والتهيب العصابي والتدميري من الموت. ومع ذلك كله، فإن شريحة من المواطنين المشبعين بالفكر العقلاني، وبعد أن أصابهم الخوف العصابي، استطاعوا أن يقلبوا المعادلة في البلاد بأسرها، ويدخلوها إلى زمن جديد. وهكذا، فقد صوَّت جزء من المثقفين في العام 1996 لصالح بوريس يلتسين، أول رئيس ليبرالي في روسيا. وقد توصل علماء الاجتماع الذين درسوا دوافع هذا الاختيار إلى استنتاج؛ مفاده: أن الخوف من سيطرة رئيس الحزب الشيوعي زيوغانوف على مقاليد الحكم في البلاد، دفع الناس لاختيار منافسه الليبرالي؛ وذلك رغم عدم وجود صلة واضحة بين القمع الستاليني والحزب الشيوعي للاتحاد الروسي.
ويخصِّص الكاتب فصلا مستقلا من كتابه لتحليل نوع من التفكير يتمخض عن مشاهدة التلفاز، مشيرا إليه باعتباره "مرض التوحد الجماعي" الذي ينتج بسبب التلاعب في الوعي. فإذا كان هدف التفكير الواقعي هو خلق الأفكار الصحيحة والصحية عن الواقع، فإن هدف تفكير التوحد الجماعي هو خلق أفكار ممتعة وحجب الأفكار غير السارة؛ وذلك لمنع الوصول إلى أي قنوات أو معلومات تحض على مساءلة الواقع.
ويعرض المؤلف مسألة التلاعب بالوعي بمستواها الأخلاقي، ويذهب إلى معرفة حالة الفرد في لحظة انتقاله من وضعية الإكراه المباشر إلى وضعية التلاعب في وعيه. ففي المجتمعات المدنية التي تعمل على قواعد التنافس بما يشبه حربا يكون الكل فيها ضد الكل، وتنقسم فئات المنخرطين في هذه الحرب إلى ثلاث فئات: صديق، وشريك، ومنافس. أما الفرد الذي يكون هدفا للتلاعب بالوعي فيقع خارج هذا التصنيف. إنه ليس صديقًا وليس شريكًا وليس منافسًا، وإنما هو شيء وحسب. يقول كارا مرزا: "بغض النظر عن الأيديولوجية والانتماء السياسي للفرد، فإن التلاعب بوعيه من قبل حكام مستنيريين ليس فقط مسموحا به، لكنه يؤدي كذلك إلى نتيجة حميدة ويفتح الأبواب إلى التقدم. ويعتقد العديد من الفلاسفة أن الانتقال من الإكراه واستخدام العنف في التحكم بالمجتمع إلى آلية التلاعب بالوعي إنما هو خطوة جبارة في تطور البشرية (...) ويؤمن الكثيرون أن العنف الجسدي أقل تدميرا للفرد من وقوعه في قبضة التكنولوجيا التي تتلاعب بوعيه".
يُحاول الباحث أن يُثبت من خلال الأمثلة والأرقام الواقع السرابي للسوق الحرة التي تروج لها وسائل الإعلام، هذه السوق التي ليست حرة في الحقيقة كما يشاع عنها وفيها الكثير من القيود المعلنة والخفية. يقول الكاتب ضاربا مثالا عن الحياة الثقافية إبان الاتحاد السوفيتي: "مع حقيقة رخص الأسعار في الاتحاد السوفييتي، كانت هناك قيود مفروضة على الاشتراكات في الصحف والمجلات. وفي بعض الأحيان كان يتحتم على المرء القيام بإجراءات كثيرة للاشتراك في بعض المنشورات الشعبية. بالنسبة لبعض المثقفين، كان هذا رمزًا للقمع الاستبدادي وللسلطة الدكتاتورية التي لا تحاصر المعرفة وتقيد الحريات. مع أن الأرقام تقول إن المشتركين في "الجريدة الأدبية" زمن الاتحاد السوفيتي تجاوز عددهم خمسة ملايين مشترك، وقس على ذلك الكثير من المنشورات والمجلات الأدبية والعلمية والاجتماعية. وبالمقارنة مع هذا العدد في الزمن السوفيتي بالعدد في الزمن اللاحق له؛ حيث انفلتت القيود، نجد أن النسبة انخفضت بشكل كبير وتراجعت القراءة كوسيلة للمعرفة لصالح الوسائل التكنولوجية الأخرى (ص:136-137).
وفي الختام، يتضح لنا أن الهدف الرئيسي للكتاب هو إبراز المادة العلمية والتطبيقية لموضوع البحث، أي مسألة التلاعب بالوعي، ووضعها بين يدي القارئ؛ بحيث يمكن لأي شخص أن يفكر في الخيار الذي يناسبه، ففي نهاية المطاف، حتى وإن كان التيار جارفا، تبقى المسألة مسألة اختيار فردي، وتدخل ضمن أسلوب الحياة الذي يتخذه الأفراد وكيفية ترتيب معيشهم اليومي.
-----------------------------
- الكتاب: "التلاعب بالوعي".
- المؤلف: سيرغي كارا مورزا.
- الناشر: رودينا، موسكو، 2018، باللغة الروسية.
- عدد الصفحات: 432 صفحة.
* أكاديمية ومستعربة روسية
