الرغبة المُطْلَقة في النمو

Picture1.png

دانيال كوهين

محمد السالمي

بعد عقد من الأزمة المالية في عام 2008، والركود الكبير الذي أعقب ذلك، يجري التشكيك في النمو الاقتصادي كمبدأ وهدف في النظريات الاقتصادية من زوايا عديدة. ففي الولايات المتحدة، لم يشهد ثمانون في المئة من السكان أي زيادة في القوة الشرائية على مدى الثلاثين سنة الماضية، ولم يكن الوضع أفضل بكثير في أي مكان آخر. إنَّ الرغبة المُطْلَقة في النمو تسلط الضوء على هاجس الرغبة في المزيد من الثروة، والتوترات العالمية التي نشأت نتيجة لذلك، وفي خضم الموارد المحدودة، وزيادة عدد السكان، وتدهور البيئة، والاضطرابات السياسية، تطرح الآن أسئلة عميقة حول طبيعة النمو حيث لم يكن هناك بحث عن أهداف اجتماعية وفردية جديدة في غاية الأهمية، في المقابل، تستطيع الاقتصادات الاستمرارية في النمو، ومن هنا أصبحت وظيفة شمولية النمو موضع جدل كبير. وبدلاً من اعتماد نمو الناتج المحلي الإجمالي كقاعدة لقياس الرفاه الاجتماعي، صاغ بعض الاقتصاديين، بما فيهم دانييل كوهين، أهدافًا مختلفة. يقدم الخبير الاقتصادي البارز دانيال كوهين في كتابه "الرغبة المُطْلَقة في النمو" جولة في تاريخ النمو الاقتصادي، من الأيام الأولى للحضارة إلى العصر الحديث. يقوم الاقتصاد الرقمي الجديد بإنشاء نموذج إنتاج "منخفض التكلفة"، حيث يستطيع هذا النموذج أن يتولى المهام الأساسية بتكلفة منخفضة، ويتمثل ذلك في الروبوتات، كما أنَّ استغلال العالم الطبيعي بدأ يأتي بنتائج عكسية. العمل الشاق لم يعد يضمن الاندماج الاجتماعي أو الدخل، بالاعتماد على الاقتصاد والأنثروبولوجيا وعلم النفس، يدرس كوهين كيف يُمكن النظر في مستقبل أقل اعتمادًا على الكسب المادي، وكيف يمكن، في ثقافة المنافسة والتي نحن نعاصرها، أن تكون الرغبات الفردية أفضل تجاه احتياجات أكبر للمجتمع. ومن هنا، وفي الوقت الذي أصبحت فيه الرغبة في الحصول على ما لم نحصل عليه هاجسًا، تستكشف الرغبة المُطْلَقة في النمو الطرق التي قد نعيد اختراعها، في القرن الحادي والعشرين، إلى المثل القديم للتقدم الاجتماعي.

دانيال كوهين هو مدير قسم الاقتصاد في المدرسة العليا في باريس وعضو مؤسس في كلية باريس للاقتصاد، كما شغل كوهين سابقاً مستشاراً للبنك الدولي وتحديداً في (مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون)، كما عمل أيضاً مستشارا لبنك لازارد في إعادة التفاوض حول ديون اليونان والإكوادور.

تم صياغة الكتاب حول ثلاثة مفاهيم رئيسية: النمو باعتباره رغبة إنسانية متأصلة، والنمو كهدف في النظريات الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى صياغة نموذج مستقبلي للنمو، ومن هنا، فإنَّ كوهين يقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، يناقش الكاتب أصول النمو الاقتصادي منذ ظهور الحضارة في الهلال الخصيب أي المنطقة المحيطة بنهري الفرات ودجلة، ونهر النيل، وكذلك ناقش الكاتب الثورة العلمية والتغيرات الديموغرافية السريعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ثانياً، يضع الكاتب مفارقة "الثورة العلمية الثانية" الموعودة من تطور أجهزة الكمبيوتر والنمو الراكد في الغرب في العقود الثلاثة الأخيرة جنباً إلى جنب مع النمو الاقتصادي والسكاني السريع "للعالم الثالث" منذ عام 1945. أما في الجزء الثالث، يضع الكتاب نموذجًا واسعاً وغير محدد للنمو المستقبلي على أساس مستوى المعيشة والسعادة، والذي يهدف إلى حل مفارقة إيسترلين. على الرغم من أن الأقسام المذكورة أعلاه منفصلة عن بعضها البعض ونادراً ما ترتبط ببعضها البعض، إلا أن الكتاب يهدف إلى إثارة التفكير في نتيجة محتملة للنظريات الاقتصادية، بدلاً من اقتراح نموذج جديد ومتماسك تمامًا.

في الجزء الأول من كتابه، يدرس كوهين أصل النمو بطريقة مبتكرة ولكن متضاربة نوعًا ما، حيث يربط أصل النمو مع بداية الزراعة في أماكن جغرافية متباعدة للغاية والتي حفزت على إعادة هيكلة المجتمعات والذي ارتبط بتوسع السكان. أدى التحول من الزراعة التي تدعمها الأمطار إلى الري بمياه النهر في تغيير طبيعة وموقع المجتمعات. فسيطرة القادة على فوائض الزراعة، كان لها الأثر في بدأ التخصص في النشاط والعمل في التطور. هذا التطور الاجتماعي يؤدي إلى التغيير الاقتصادي. كما أن انخفاض عدد العمال الزراعيين، يغيّر ميزان القوى بين ملاك الأراضي والعمال.

 ونتيجة لذلك، حدثت لحظة فاصلة في مطلع القرن السابع عشر تزامناً مع ظهور التقنيات التحويلية مثل محرك البخار والآلات الجديدة لغزل القطن التي أدت إلى الثورة الصناعية. الغرب ازدهر، وقد ساعدت تجارة الإمبراطورية وتطوير الأسواق في أوروبا على قيادة النمو الاقتصادي العالمي. ومن هنا بدأت الثورة في استبدال الدين بفكرة التقدم المادي، وبعبارة أخرى كتب كوهين أن هذا أدى إلى حركة "من الأمل الإلهي إلى فكرة التقدم"؛ حيث أصبح النمو المادي مرادفًا للتقدم للدول والأفراد. إن هذا الانصهار، كما يؤكد المؤلف، أدى إلى التحدي الاقتصادي في عصرنا، حيث غيرت التكنولوجيا الرقمية طبيعة النمو.

الجزء الأكثر ابتكارا وتحفيزا للفكر في الكتاب وتحت عنوان "المستقبل، المستقبل"، يقدم حجة متماسكة لنمو ضعيف في المستقبل. بدءًا من لمحة عامة عن التقدم التكنولوجي القادم، والذي يقود إلى إمكانية لنمو دائم، ومع ذلك، هناك سحابة معلقة على هذه الجنة، ألا وهي القضاء المحتمل على وظائف الطبقة المتوسطة، يجادل كوهين بأنَّ النمو الراكد منذ السبعينات قد دمر العقد الاجتماعي القائم بين العمال والرأسماليين خلال عصر التنوير. وهكذا، فإنَّ الحل الوحيد هو إعادة بناء "العقد الاجتماعي الحقيقي" وإنشاء نظام اقتصادي ينمو ويُدافع عن مستويات المعيشة ورضا العمال والسعادة، وليس الناتج المحلي الإجمالي والثروة. ولكن رغم اتفاق كوهين مع المنطق النظري وتجاهله للحقيقة، إلا أنَّ الإحصائيات تشير إلى العلاقة الطردية بين التكنولوجيا والبطالة. مع مرور الزمن يكون الأفراد أكثر تخصصاً ومواكبة للتغير في القطاعات الاقتصادية.

ورغم أن القسم الثالث يتزامن مع المناقشات الحالية، إلا أن هذا الجزء لا يزال يُعاني من العديد من الهفوات التي تنبع من بداية ضعيفة في محاولة غير مقنعة للتعامل مع تداعيات النمو الاقتصادي الضعيف على الرفاهية. إنَّ القضية الأكثر أهمية في الرغبة اللانهائية هي عدم وجود خصوصية عند عبور قرون من الزمان والمكان دون وضع سياق ملائم ليس فقط للتكوين الفكري ونشر الأفكار، ولكن أيضًا للتغيرات السياسية والاقتصادية والدولية في العالم منذ القرن السابع عشر. بدون هذا السياق، يمكن بسهولة أن ينظر إلى النمو الاقتصادي على أنه ظاهرة قديمة أكثر من كونه اختراعًا جديدًا يدعمه إنشاء الإحصاءات كمجال علمي في القرن العشرين.

وقد أشار الكاتب إلى أننا في خضم ثورة صناعية جديدة مدفوعة بتكنولوجيا الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي التي لم تترجم إلى نمو اقتصادي. ولاحظ أن الإنتاجية قد انخفضت أو توقفت منذ بداية الثورة الرقمية. وفي نفس السياق أدى التطور في تكنولوجيا المعلومات والاتصال إلى إعادة تنظيم العمل عبر تعدد المهام والاستعانة بمصادر خارجية ولكن لم يكن له أي تأثير حقيقي على النمو، وقد ساهم هذا في زيادة عدم المساواة.

يجادل كوهين بأنه لا يُمكن تحقيق مستوى مقبول من السعادة إلا إذا تم تحويل المجتمعات التي تضررت من النمو الاقتصادي الضعيف؛ حيث يرى ضرورة أن يكون هذا التحول عميقًا لأنه يتطلب مواقف جديدة تجاه التقدم المادي والعمل والتسلسل الهرمي، وعلاوة على ذلك، تستند الحجج الرئيسية على بيانات من تقرير السعادة العالمي للأمم المتحدة، الذي يحتوي الاعتماد على قياس نسبي للسعادة لاستخلاص استنتاجات حول المستويات المطلقة للرفاه، قد يسجل الفرنسيون درجة منخفضة من السعادة، لكن من الصعب إقناعنا بأن رفاههم هو نفس شعور الناس في معظم بلدان أفريقيا أو أمريكا الوسطى والكاريبي حتى لو كانت درجات السعادة المتوسطة هي نفسها أو ما شابهها. يخلص كوهين إلى أننا بحاجة إلى إطار جديد لخفض هذه العقدة، ومع ذلك، فهو لا يحاول جاهدا بناء واحدة، بل إنه ينتقد المجتمع الأمريكي والفرنسي ويطلب منِّا اعتبار الدنمارك نموذجًا يحتذى به. "في الدنمارك يثق الناس ببعضهم البعض ومؤسساتهم، نحن بحاجة إلى استعادة التضامن، وإعادة إحياء العالم، واتخاذ مسار طويل، بطيء وممتع في رحلاتنا عبر الحياة" في هذه الصفحات المبهمة على طول هذه الخطوط، هذا هو جوهر نصيحته!. على الرغم من هذه الانتقادات، هناك بعض الحقائق المهمة في حجج كوهين. يبدو أن معظم الأميركيين والفرنسيين وكل الأشخاص الآخرين تقريباً في العالم لديهم رغبة لا تقهر للنمو الاقتصادي. والرغبات اللانهائية للأشياء المادية هي بالتأكيد سيئة. ليس لأنها ستدمر كوكب الأرض، فقد تبدو الجودة البيئية جيدة بشكل طبيعي؛ لذلك نحن "نشتري" التحسينات البيئية كلما أصبحنا أكثر ثراءً. كما أنه ليس لأننا لن نكون قادرين على تحقيق نمو اقتصادي قوي للأجيال القادمة حيث إن تحفيز المليارات من الناس على الخروج بأفكار مثمرة ربما يحقق هذا أيضًا. قد يكون كوهين على حق في أننا بحاجة إلى إطار جديد، ولكن يجب أن يكون إطارًا للتعامل مع الوفرة، وهو إطار عقلي في الأساس.

تم تأطير كتاب "الرغبة المُطْلَقة في النمو" ككتاب يتناول القضايا الملحة للاقتصاد والعالم الحالي بسبب اقتصاد رقمي ناشئ، مدفوعًا "بالثورة العلمية الثانية". لسوء الحظ، فإنَّ عمل كوهين أقل بكثير من هذا الوعد، أهدافه الطموحة للغاية تجعله يتغاضى عن السياقات الزمنية والمكانية والتاريخية التي ظهرت فيها فكرة النمو، على الرغم من النقد والحماس الذي آثاره الكتاب، صنف الكتاب في قائمتي الفايننشال تايمز وبلومبيرج بكونه أفضل الكتب الاقتصادية، وما يؤكده كوهين أن الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي كمعيار لقياس مدى الرفاه والتطور الاجتماعي قد يفضي لحقيقة منقوصة يؤكدها الكثير من الاقتصاديين.

---------------------------------

تفاصيل الكتاب:

اسم الكتاب: الرغبة المُطْلَقة في النموّ

المؤلف: Daniel Cohen

الناشر: Princeton University press

سنة النشر: 2018

اللغة: الإنجليزية

عدد الصفحات: 184

 

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة