موقع الدين أمام السلطة عند ناصيف نصار

ناصر الكندي

قبل الشروع في الحديث عن مقال نبيل فازيو "الدين في حدود السلطة" المنشور في مجلة التفاهم، ينبغي التنويه إلى أنَّ موضوع علاقة الدين بالسلطة في العالم الإسلامي لم يُطرح إلا في بداية الاحتكاك بالآخر، أي في بداية الاستعمار الأجنبي للأراضي العربية حيث كان معظمها خاضعا للإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر. ولم تكن الدعوات في تلك الفترة لتهتم كثيرا بالجانب السياسي بسبب ضرورة التخلّص من المستعمر أولاً، وثانياً إعادة التوازن للعقل العربي مع موجات الحداثة القادمة من الغرب بين مستقبل وطارد لمبادئها. وعند انحسار الاستعمار في القرن العشرين، بدأ التنظير السياسي يتخذ مساراً أكثر تأصيلاً وفهماً من المرحلة السابقة له. فكان أن ظهرت تيارات يسارية وإسلامية وعلمانية عسكرية تحاول أن تجد بديلا للفراغ السياسي الذي خلفه الاستعمار. وبعد إخفاق العلمانية العسكرية بعد نكسة حزيران عام 1967م انقسم العالم العربي بين تيارين سياسيين: الإسلام اليساري والعلمانية.

ينتمي الفيلسوف العربي ناصيف نصار إلى الفئة العلمانية، والمقصود هنا بالعلمانية ليس بالتأكيد العلمانية العسكرية، وإنما علمانية قائمة على الفصل بين الدين والدولة وفقًا لفلسفة تنويرية سيتم إيضاحها لاحقًا. ويشير الكاتب نبيل فازيو "أن نصار لم يحسب نفسه – في فلسفته السياسية – من زمرة فلاسفة الدين، بل فضّل أن يطلّ على الدين من زاوية تفكيره في العلمانية وفلسفته في السلطة". ويتناول فازيو فلسفة نصار عبر كتابه "منطق السلطة" وذلك من خلال أربعة محاور رئيسية: 1- فلسفة السلطة وسؤال الدين. 2- في خلوِّ الدين من نظرية الدولة والسياسة. 3- في نقد الدولة الدينية. 4- الدين في الدولة ومشكلة العلمانية.

يستعرض فازيو في المحور الأول "فلسفة السلطة وسؤال الدين" عن ماهية السلطة عند نصار وطابعها التركيبي واستدعائه لفلاسفة السياسة القدامى مثل الماوردي وابن خلدون وهوبس وروسو وكانط ولوك وهيجل وغيرهم. ويعرّف نصار السلطة على "أنها حق في الأمر، أو هي بالأحرى: احتكار له يُعطي لصاحبه مشروعية لإصداره الأمر انطلاقاً من التسليم بضرورة خضوع المأمور، فهي إذن جدلية أمر وطاعة بين الحاكم (الآمر) والمحكوم (المأمور) مدارها الاعتراف". ويقوم نصار في كتابه "منطق السلطة" بفصل السلطة عن السيطرة وعن القهر وكشف طابعها الإنساني واتصالها الماهوي بالعدالة. ولا يقبل نصار أي مقاربة سياسية ذات طابع إنساني وسلطة للدين؛ وذلك لأنَّ الأخيرة لا تملك مفهوماً عن السياسة بل هو مفهوم ثيوقراطي يقضي على أبسط مقومات السياسة من تعددية وحرية واختلاف.

أما في المحور الثاني "في خلو الدين من نظرية الدولة والسياسة"، فإنّ نصار يقدم نفسه كفيلسوف وليس كمثقف مثل العروي، أي أنه لا يفصل السياسة عن الدين إلا من وجهة نظر فلسفية. ولم يقدم نصار وجهة نظر فلسفية عن الدين مثل كانط، وإنما من وجهة نظر السياسة وعلاقتها بالدين، فهو يقول بأسبقية السلطة على الدين، وأن الدين حاجة طبيعية للإنسان مثل السلطة، ولا يفرّق نصار بين الدين والسلطة وفق حالة ماهوية بل معرفية، ويرجع التفريق إلى العقل، والعقل يقول إنه ليست المشكلة بأسبقية السلطة على الدين، المشكلة أن الدين بطبيعته يفرض مقبولية على معتنقيه في الدخول إلى السياسة، وهي ليست مشكلة فردانية بل جماعية.

 

     ويشير فازيو في المحور الثالث "نقد الدولة الدينية" إلى أن طبيعة الدولة الدينية عند نصار هي نبذها للاختلاف، ولا يوجد ما يسمى بالـ"تسامح" الديني ويرفض نصار هذا المصطلح، فهو يخفّف من وطأة الاستبداد ولكنه لا يلغيه. ويفرّق نصار بين "العدل" الديني والسياسي، إذ إن العدل الديني يتعلّق بحقوق متعالية على الإنسان، لكنه لا ينكر أن هناك نوعا من التداخل بين السلطة الدينية والسياسية إذ من الصعب فصلهما. وهو هنا يحاول وضع تحالف دستوري من خلال تشريع سياسي يُقرّ أن الأخلاق في التشريع ضرورة. ويتحرّر نصار من تزاوج الدين بالسياسة خاصة في التضليل القائل إن السلطة حارسة للدين، فالدين -عند نصار- يحرس نفسه بنفسه دون حاجة للحماية السياسية.

ويؤكّد نصار في المحور الرابع "الدين في الدولة ومشكلة العلمانية" بأنَّ العلمانية ضرورة وفقاً لتاريخها الكوني، ويجب على العلمانية أن تنظر للدين من خلال تاريخيّته وليس على أنه تجربة روحية تحجب عنا ما يعرفه من تطور تاريخي، ويكون ذلك بتكريس العلوم الإنسانية والتاريخ والفلسفة لمعرفة الدين وتطوره. وعليه، هناك مفهومان للعلمانية: الأول بمعناه الضيق في شقه السياسي، والثاني بمعناه الواسع التنويري. إلا أن هناك رهاناً غير محسوب بشأن بقاء الدين في موقعه عند دراسته وفقاً للعلوم الإنسانية والفلسفة، إذ سيجعل الدين تحت مجهر العقل الذي ربما لن يُخرج الدين حتماً من الفضاء العلماني فحسب، بل إلى ملاحقته! فها هو نصار يقول في منطق السلطة: "إذا كان المفهوم السياسي للعلمانية يقتصر على تحرّر الدولة وأنظمتها ومؤسساتها من اعتبارات الدين ومذاهبه، وإذا كان المفهوم التنويري للعلمانية يقتصر على تحرر العقل في مقاربته للحقيقة من الرؤية الدينية للكون والإنسان، فإنّه من المنطقي أن تكون العلمانية في جملتها خروج الإنسان من هيمنة الدين على حياته إجمالا من خلال الهيمنة على حياته الفكرية/ العقلية والسياسية، وليست أكثر من ذلك."

يختم نبيل فازيو المقال بأن ناصيف نصار- وبدون أن يقصد – عبّد الطريق إلى بوادر فلسفة عربية في الدين ذلك أن نصار لم يقم بالفصل بين الدين والسياسة، بل قام بالمزاوجة بينهما خاصة في فكرة التحالف الدستوري بين السلطة والدين من خلال الأخلاق التشريعية. إلا أن فازيو يأخذ على نصار تمسّكه الفلسفي في بناء تصوّر للدين والعلمانية وتقشّفه في الانفتاح على تخصصات علمية أخرى. وأخذ عليه أيضاً تصوّره الحتمي والكوني للعلمانية الذي كان يتسم بالطابع العقائدي والدوغمائي.

في الحقيقة، لم يكن نصار المفكر العربي الوحيد الداعي إلى العلمانية خصوصًا في الثلث الأخير من القرن الماضي، فقد كان معه مفكرون آخرون مثل فؤاد زكريا وفرج فودة وعبد الوهاب المسيري وجورج طرابيشي وغيرهم. إلا أن نصار لم يواجه الدين بلغة حازمة مثل فؤاد زكريا وفرج فودة وطرابيشي ولم يتراخ عنه أيضا مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي الذين استبدلا بمصطلح العلمانية "المدنية" وذلك بعدم وجود كنيسة لتُفصل عن الدولة مثل الظروف المسيحية الغربية. وإنما قام بتحديد المفاهيم ونقطة الالتقاء والافتراق بين السلطة والدين وفق فضاءاتهما الطبيعية.

 

أخبار ذات صلة