عاطفة المسكرية
التنوير والتجديد الديني مصطلحات ظهرت وارتبطت بمُجريات أحداث القرن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا و تحديدا بالفكر السياسي والاجتماعي والديني والفلسفي كذلك. وتطرق للمعاني المتصلة بمصطلحي التنوير والتجديد الديني أحد الباحثين المتخصصين في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر حيث تدرج في مناقشاته حول عدة مسائل أهمها العلاقة التي تربط الإنسان بنفسه وبالكون وبأخيه الإنسان وبالغيب كذلك في مقال له بعنوان "التجديد الديني والمسألة الأخلاقية عند محمد إقبال". إن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتب السماوية على أنبيائه بين أممهم في تلك العصور وحدثت اختلافات حيث إنَّ هناك من آمن وهناك من كفر كعادة كل الأمم في كل العصور.
إن الكنيسة الغربية في السابق كانت مهيمنة على كافة المجالات المرتبطة بالمجتمعات الغربية والأوروبية تحديدا، حيث كان لها أثر في الجانب الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والديني، والثقافي، والفلسفي. وجاءت بداية القرن التاسع عشر ليصبح التنوير في أوج تأثيره على المجتمع إلى حد إصدار كتاب تنويري واحد على الأقل في اليوم الواحد وكانت بعض هذه الكتب تتعاطى مواضيع تثير صخباً شديدًا وجدلاً حولها لأن بعضها كان يصور الأديان وكأنها أفكار رجعية لا تمت للحداثة بصلة وفقاً للمفكر المصري محمد عمارة. والمثير هو الانتشار الهائل للفكر التنويري للحد الذي جعله حاضرا في كل المحافل التي كانت تقام في تلك الفترة كمعارض الكتاب التي كانت تتطرق للتنوير كمحور أساسي لها. على الرغم من ذلك، لابد من ذكر أن هذا المصطلح تختلف مضامينه اختلافا جذريا في الشرق مقارنة بمعانيه عند الغرب وهذا ما غفلت عنه فئات كثيرة في المجتمع آنذاك حيث يفترض أن يُقتبس تنوير المسلمين من القرآن وواقع المسلمين المبني على القيم الإسلامية لأنَّ نظرة الإنسان المسلم للكون ولنفسه تختلف تماماً عن النظرة اللاهوتية الغربية، فالتنوير الغربي جاء كرد فعل على السيطرة الكنسية الغربية وغالبا ما تكون ردات الفعل ناسفة لكل ما سبقها من أفكار وخاصة إذا كانت في نفس سياق الفكرة التي جاءت كردة فعل؛ فقد كان الشعار في ذلك الوقت أنه لا سلطان على العقل إلا العقل.
ومن وجهة نظر شخصية، لا يتماشى مع المنطق العقلي لطبيعة الحياة البشرية؛ فالغيبيات حقيقة لا يمكن إنكارها وما أدل على ذلك إلا الموت. على الرغم من ذلك يعد العقل حاضرا في الخطاب الديني الإسلامي تحديدًا فقد ورد ذكره في أكثر من ٤٠ آية في القرآن الكريم، وهنا دلالة على تأكيد أهمية التفكر وإعمال العقل؛ فالفرق بين الدعوة الإسلامية والتنويرية أنه من المفترض أن تعمل العقل بجانب الشرع على عكس التنوير الغربي الذي يركز على العقل منفردا. الأفكار الحديثة على المجتمع غالبا ما تلقى إما قبولا ورواجا أو استنفارا هائلا، وقد تلقى الاثنين معاً بين فئات مختلفة. وهنا يأتي دور المفكرين بالمجتمعات في مقاربة الأفكار ووجهات النظر والتفسير العقلاني للأفكار، ولا نستطيع احتكار هذه المهام على المفكرين، إنما يجب أن يقوم كل ذي وعي بدوره التوعوي في سبيل الارتقاء بالمجتمع والابتعاد عن سفاسف الأمور كالاختلافات التي تؤدي إلى الانقسامات في المجتمع الواحد بين مُختلف فئاته وبين جيل وآخر في بعض الأحيان.
إن الاختلافات حتمية وناتجة عن اختلاف الأفكار والبيئة التي نشأ فيها أفراد المجتمع الواحد، لكن تبقى مسألة تقريب وجهات النظر ممكنة لأبعد حد، وما أدل على ذلك إلا التكتلات السياسية/ الاجتماعية / الاقتصادية في مجتمعات الدول الصناعية - كنموذج - سهل الاستدلال بسبب وضوح الأهداف والنتائج لديها. وعليه، غالباً ما يتم السعي والتركيز فيها على إيجاد النقاط المشتركة. على كل، يعتبر التنوير كفكرة مثل العديد من الأفكار الجدلية التي ظهرت في المجتمعات ولكن كان للحركة دور أساسي لقيام ثورات اجتماعية وسياسية كالثورة الأمريكية والفرنسية تحديدا، مؤدية لبزوغ شمس الاشتراكية والرأسمالية، مؤثرة على الاقتصاد. كذلك أسهمت بشكل قيادي جداً لقيام الدولة الحديثة التي غيرت من توجهات أنظمتها القديمة إلى أنظمة تفصل الدين عن الدولة ولا زالت هذه الأنظمة قائمة إلى يومنا هذا. وإذا جئنا نمعن النظر لنظرة المجتمعات الشرقية والغربية للتنوير نجد أنها لا زالت مختلفة بينهما والفجوة غالباً ما تكون نابعة من منطلق ديني، فلا زالت المجتمعات الشرقية تنظر للفكرة على أنها محاولة لاستبعاد الدين ومغالطته في كل شاردة وواردة بينما ينظر إليها الغرب على أنها نوع من التجديد الإيجابي الذي سيسهم في تقدم المجتمعات.
بعيدا عن آراء الشرق والغرب ربما نستطيع طرح بعض التساؤلات التي توازن بين النظرتين، فلماذا لا نستطيع التقدم والتقليل من إضفاء الطابع الديني في تفاصيل الحياة مع الحفاظ على ثبات الهوية الدينية كأساس وقاعدة وجودية لا غنى عنها. فلم تكن التوجيهات في الدين داعية للطاعة فقط دون تفكير، ونستدل بقوله تعالى "إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ(3)"(سورة الزخرف) وبقوله تعالى "وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)"(سورة الروم). و"قُل لَا أَقُولُ لَكُم عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعلَمُ الغَيبَ وَلَا أَقُولُ لَكُم إِنِّي مَلَكٌ إِن أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُل هَل يَستَوِي الأَعمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ(50)"(سورة الأنعام) وإن بحثنا لن نجد ما يتعارض مع الدعوة للتفكير في القرآن الكريم. ومن هذا المنطلق لابد من إعطاء الأفكار التي لن تلامس الثوابت والجوهر الديني فرصة لا سيما أننا لم نصل إلى البنية التحتية الفكرية التي يصل فيها الإنسان إلى قدرة مطلقة في تحليل تصرفاته ونقدها وإعادة النظر فيها باعتماد تام على عقله ونفسه وثقافته دون الحاجة إلى التجديد.
