الدوغما وأثرها في تشكُّل الدين

فيصل الحضرمي

في الفصل الرابع من كتابه المعنون "كيف يتكون الدين"، والصادرة نسخته العربية عن دار جداول للنشر سنة 2014 -ترجمة رضوان السيد- يناقش الفيلسوف والرياضياتي الإنجليزي ألفرد نورث وايتهيد (1861-1947) مسألة تطور الدوغما، قائلاً إنه لا مناص للحقيقة الدينية من التطور عن المعرفة التي نكتسبها حين تصبح حواسنا وإدراكاتنا مسلحةً بما يكفي بالانضباط والصرامة، وبدون ذلك فإنه يتعذر ركز أرضية راسخة للدوغما/العقيدة الدينية. فالدين عند وايتهيد يتأسس -في بادئ الأمر- على تعميم الحقائق النهائية المدركة بواسطة التجارب الذاتية المنعزلة، وانتظامها، ومن ثم، في نسق متماسك يتم توظيفه بغرض تقديم تفسيرات مقنعة للحياة. ويرى وايتهيد أن بقاء هذه الحقائق، أو سقوطها، رهنٌ نجاعتها في التفسير. أما خصوصيتها، فتتجلى في ارتباطها بقيم معينة دون سواها، عبر علاقات تعبيرية صريحة تلفت اهتمامنا إلى ما هو ثابت في الكون.

 

إنَّ الحقائق الدينية -بحسب وايتهيد- تضفي أهمية/قيمةً على وجودنا الذاتي، ممتوحةً من طبيعة الأشياء نفسها. ولكن التجارب الذاتية ليست على قدم سواء عند جميع الناس، إذ هم متفاوتو الإدراك والاستيعاب، في حين تتطلب هذه التجارب قدراً عالياً من الإدراك العاطفي والخبرة الشعورية. فالشعور -عكس ما هو شائع الاعتقاد- يهيئ لنا سبيلاً أفضل إلى المراقبة والتتبع.

ولا يفوت الفيلسوف الإنجليزي أن يعرض لأصل كلمة "دوغما" التي تعني "الرأي"، أو -بتوسيع المعنى- "الرأي الفلسفي الخاص". كما كان الطبيب الإغريقي جالينوس يطلق تعبير "الأطباء الدوغمائيين" على الذين يطبقون في عملهم مبادئ وقواعد الطب السليمة، والذين يعارضهم جالينوس بالأطباء التجريبيين الذين يقررون أن "التجربة هي الأمر الوحيد المفيد". هكذا يأخذ وايتهيد على عاتقه مهمة المقارنة بين الدوغمائي والتجريبي في علاقتهما بالدين. وضمن هذا السياق، ينوه وايتهيد إلى أن تكوين الدوغمائيات يستلزم استعمال أفكارٍ لها معنًى وصياغة معتمدتين؛ فالفكرة بمثابة "حلقة في سلسلة"، فإذا ما ألفت نفسها في الفراغ عجزت عن الحركة. بالمثل، فإن الدوغما تعبير عن واقعة ما منظور إليها ضمن حقل فكري محدد، وهي غير قابلة للنقل من طريق ترجمة كلماتها، وإنما تكمن الطريقة الوحيدة لفهمها في استيعاب النظام الفكري الذي ينتظمها. والأمر ينطبق أيضاً على عملية تقويم الدوغما، أي أنه لا ينبغي لمفكرٍ ما أن يزعم الصحة المطلقة لدوغماه إلا بعد أن يتحقق من المجال الفكري الذي أفرز تلك الدوغما. ويمثل وايتهيد على ذلك بحقيقة أن دوغمائيات الكنيسة في الفترة ما بين المئة الثالثة والمئة السادسة للميلاد، قابلها نظام الأفكار الذي أرسته الفلسفة الإغريقية، والذي لا يمكن تجاهل إلهامه هو الآخر. ويختم وايتهيد حديثه عن تطور الدوغما بالتأكيد على أن الدوغما، من حيث هي مقولة دقيقة، لا يمكن لها أن تكون نهائيةً خارج إطار المصطلحات والمفاهيم، مضيفاً أن تقدم الحقيقتين: العلمية والدينية، ليس إلا تطوراً في قولبة المفاهيم، وصوغ تصورات أكثر اقتداراً على سبر أغوار الواقع، بعيداً عن المجازات والتجريدات المزورة.

بعد ذلك، ينتقل وايتهيد إلى موضوع الخبرة والتعبير الذي يصفه "بالشعيرة التأسيسية المقدسة". فالتعبير إبداعٌ ينجم عنه استثارة الحدس الذي سيشكله الشخص المنبري لمهمة الشرح أو التأويل. إنَّ أصالة التعابير لا تشير إلى الاستمرارية فيما يخص عمليات التطور، وإنما يمكن لمجموعة من التعابير، أطلقها شخص أو أكثر، أن  تدعم مجال الخبرة بحدوس جديدة تدفع الباحثين لمقارنتها ومزجها بأفكار وخبرات أخرى. بالنسبة لوايتهيد، فإن أعمال كتاب التراجيديا اليونانية وسقراط ودانتي وشكسبير غير قابلة للتكرار. فهؤلاء المبدعون يتسمون بالجدة دائماً، ورغم أننا نتطور مثلهم إلا أنه لا يمكننا تجاوزهم، بفعل الحدوس التي قدموها للعالم.

ثمَّة أمران يدعونا وايتهيد إلى عدم إغفالهما في هذا السياق؛ الأمر الأول: ارتباط الأسماء الأدبية عموماً بمحيط صغير لم يمنع نمو عبقرياتها، وهو ما يطلق عليه وايتهيد "فضيلة الواحة الصغيرة (وسط الصحراء)". فغوته أدرك العالم من مدينة فايمار، بينما لا يمكن فصل سقراط عن أثينا. أما الأمر الثاني فهو أن الناس، بالرغم من كونهم غير قادرين على خلق وقائع جديدة، وابتكار صيغ مختلفة للعالم، إلا أنهم يتسببون بنشوء تعابير جديدة حين يعبرون عن رؤيتهم للعالم. وبمرور الزمن، تمتلك هذه التعابير القدرة على استثارة ردود الأفعال الموافقة لإمكانياتها.

وبرأي وايتهيد، فإنَّ الاستخدام المتشدد للدوغمائيات الدينية أدى لعدم الاستفادة منها، كما نجم عنه دمار أنحاء كثيرة من العالم. إن التعبير باستخدام الدوغمائيات يمثل خروجاً من العزلة إلى المجتمع، كما يجعل الشيء، الذي لم تتحقق معرفته إلا سراً، يُعاش ويختبر بشكل جماعي.

ويُنهي وايتهيد هذا الفصل بالحديث عن الانحرافات التي تشوب تعابير الدوغمائيات في التقاليد الثلاثة: البوذية والمسيحية والعلم، وهي انحرافات مهمة حين يتعلق الأمر بالديانتين البوذية والمسيحية لأنها، وفق وايتهيد، تحيل إلى الأصول الدينية الأولى، أي إلى طبيعة الله، ومعنى الحياة. يتشابه التقليدان المسيحي والبوذي في كثير من الأمور. ففي كلا التقليدين توجد شخصية المخلص؛ المسيح وبوذا، ولكن لاهوت الديانتين أعطى لكل من هذين المخلصين وظائف مختلفة عن المخلص الآخر. كما أن الأرواح، في كلا الديانتين، تعود إلى الله، إلا أن هذا التشابه المبدئي يخفي وراءه فروقاً أساسية تتمثل في اختلاف مفهوم الله بين الديانتين، وفي اختلاف المعنى الذي تمنحه كل ديانة منهما لعودة الروح الإنسانية إلى الله.

أمَّا العلم، الذي جاء ليكون النظام الفكري الثالث، فقد أقدم على الإجابة عن الأسئلة التي طرحها لاهوتا المسيحية والبوذية. فقد أتى العلم بأفكار وتجارب جديدة من شأنها إعادة صياغة الرؤية الدينية للعالم. ومع انتصاف القرن التاسع عشر، كان العلم قد انقسم إلى تيارين اثنين، أحدهما تجريبي يُعنى بترتيب التصورات السائدة في البحوث العلمية، والآخر مثالي راديكالي يُعنى بالحقائق النهائية، تاركاً للفلسفة مسألة تقدير ما يمكننا معرفته عن الواقع الأساسي، وحجم مشاركتنا في الواقع المطلق. ويرى وايتهيد أن التعصب الذي استشرى بين لاهوتيي الديانتين المسيحية والبوذية نفى كلاً منهما بعيداً عن الآخر، وحرمهما من فرصة التلاؤم مع العلم الذي عانيا من زحفه عليهما.

وتبقى الإشارة إلى أن وايتهيد لم يفد من المقاربة الأنثروبولوجية في معالجته لموضوعات هذا الفصل، مثلما لم يفد منها في تحليل تاريخ الأديان في الكتاب بعامة، بحسب محمد حلمي عبدالوهاب في مقالة ضافية له عن الكتاب نفسه.

أخبار ذات صلة