قيس الجهضمي
إنّ ظهور فكرة أنّ الإسلام هو خاتم الرسالات السماوية وأنّ النص القرآني هو آخر وحي يتلقاه البشر من الله جعلت مسألة التأويل لهذا النص تسير في مفترقين: إمّا أن يكون هذا النص هو تام من كل الجهات فانتهى إلى دلالة واحدة، أو أنّه لا يقتضي نهاية هذه الصفة الخطابية بين الله والبشر، بمعنى أنّ هذا النص لا يُحصر في دلالاتٍ أحادية. يتناول الكاتب عبدالحكيم أجهر في مقالته "الاستراتيجيات التأويلية في الإسلام والآفاق المعاصرة" والمنشور بمجلة التفاهم ضرورة الممارسة التأويلية لهذه الأمة، وما تخلق من آفاق جديدة تقترب من الحقيقة وتزيد من الوعي بالواقع مستندة إلى الخطاب الإلهي لتحقيق سبل التقدم والتنمية؛ إذ يتجلى من خلال الممارسة التاريخية للمسلمين أنّ هذا الخطاب الإلهي وعلاقته بالإنسان لم تتوقف، وأنّ محاولات الكشف عن هذه المقاصد الإلهية في النص القرآني لا يمكن أن تنتهي للأبد، وهي مهمة جماعة لا فرد، والجماعة هنا لا يقصد بها إجماع علماء معينين، بل ما يخرجه هؤلاء العلماء من تنوع في المواقف والفرضيات التأويلية التي تسعى لمقاربة الحقيقة.
إنّ القصد الإلهي في خطاب الحق أن يكون المراد الإلهي غير متناهٍ من خلال هذه الألفاظ والمفردات -كما يذكر أجهر- وأنّ لغة هذا الخطاب الإلهي هي اللغة العربية التي أوكل إليها حمل هذه المهمة كونها لا تكشف المقصد كاملا، فأصبحت اللغة بهذا الأمر هي موطن الحقيقة الكاملة التي من خلالها تظهر أو تختفي عن العقل الإنساني، وقد تميزت هذه اللغة بأنها تحوي كمّا هائلا من المقاصد الإلهية اللامتناهية، وأنها تستطيع أن تتجدد كل يوم لتكشف عن هذه الحقيقة، فقد سمحت لكل المحاولات التأويلية السابقة التي اشتغلت عليها أن تجد فيها جانبا من الحقيقة.
والممارسة التأويلية قائمة على ثلاثة أطراف هي: (اللغة، والواقع، والإنسان المؤول)، وكل طرف منها هو وسيط للطرفين الآخرين، فاللغة وسيط بين الإنسان المؤول والواقع، فالواقع الذي ينكشف من خلال البحث عن الحقيقة داخل النص بواسطة الإنسان المؤول هو وسيط بين النص والمؤول إذ لا يمكن قراءة النص قراءة متجددة بعيدا عن واقع مختلف وزمان متجدد، والإنسان المؤول هو وسيط بين الواقع والنص يقترب من الحقيقة من خلال قراءة الواقع الذي ينمي الوعي فيه ويجعله يقارب الحقيقة داخل النص، وكل هذه الأطراف تسير بصيرورة التاريخ وتحرك الزمن.
لقد أفرز التاريخ العربي الإسلامي العديد من الاستراتيجيات التأويلية كل واحدة منها حاولت مقاربة الحقيقة في النص حسب طريقتها، يذكر منها الكاتب: الاستراتيجية اللغوية والتي عُنيت بتأويل النص من خلال المجاز اللغوي، والاستراتجية الصوفية التي قامت بتقسيم النص لظاهر وباطن وجعلت من الباطن موطن الحقائق يكشف عنه عن طريق الحدس والخيال، ومنها الاستراتيجية الفلسفية التي يرى فيها ابن رشد أنّ الباطن هو العقل الموجود هناك بوصفه الحقيقة ويكشف عنه عن طريق التضمن العقلي للمعنى المجازي للفظ، والاستراتيجية الرمزية وهي التي تقوم على أنّ الألفاظ عبارة عن إشارات ورموز لمعان أخرى ويتطلب الكشف عنها ذهنا تخيليا رفيعا، وهناك استراتيجية الظاهر التي تذهب إلى المعنى المباشر الذي يؤديه اللفظ، إن كل هذه الاستراتيجيات التأويلية باستثناء استراتيجة الظاهر تنطلق كلها من فكرة واحدة، وهي أنّ النص دائما ما يحيل إلى معنى أو بعد آخر يكون البحث فيه عن الحقيقة، وهذا الاحتمالات المتعددة داخل النص تقوم دائما بتجديد العلاقة بين الإنسان المؤول والعالم كما أنها تزيد من وعيه بذاته، ويذكر الكاتب أنّ على الجماعة "أن تتعهد النص بأبعاده كلها ويجب أن تتخلص من فكرة الإجماع التام وتعترف بتعدد الاجتهادات"، لأن العلاقة في التأويل بين الله والإنسان علاقة في التاريخ كما يتجلى في تعدد المدارس ووجهات النظر في الممارسات التاريخية الإسلامية.
وفي تعريف التأويل ذهب الكثير من المسلمين القدماء إلى المطابقة بين التفسير والتأويل، وهناك فريق آخر ميز بين التفسير والتأويل حيث جعل التفسير "بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا" بينما التأويل "توجيه لفظ متوجه لمعان متعددة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة"، أما الكاتب فيرى أن التأويل هو "نشاط فكري يبحث في المعنى وليس أي معنى بل ذلك المنغلق منه القابع هناك في مكان ما بين مفردات وتراكيب المفردات والجمل"، لذا فأصحاب نظرية التأويل يذهبون إلى الإقرار بفكرة شرعية الاختلاف التي تعبر عن وعي كبير في التعامل مع النص القرآني وأن المرء مخاطب بما أداه إليه اجتهاده من تأويل الكتاب أو السنة. وفي المقابل من يرفض التأويل ويتمسك بالدلالة الحرفية أو الظاهره للفظ هو يعارض بقوة ثلاث مسائل برأي الكاتب أولها أنه يرفض التاريخ باعتباره أنه توقف مع ختام الرسالة وليس هناك من جديد على الصعيد العلمي والعقلي يمكن أن يحدث، أما الثانية فهي التشكيك في "الفاعلية الإنسانية المعرفية" بحيث يصبح الجهد العقلي غير مشروع أو صعب بحكم أن الحقيقة النقية وجدت في تلك اللحظة النبوية فقط، وفي النهاية هم يرفضون الاختلاف وتعدد الأفهام وبهذا يعتبر التأويل عند هؤلاء هو تحريف للنص الأصلي لأنّه يخرج عن الدلالة الوحيدة التي وضعوها له.
ويذكر أجهر أنّ النص القرآني كان نصا للجماعة في مجمله وليس فقط للتشريعات والأحكام، كما أنه يروى عن النبي أنه فسر آيات تعد من القرآن علمه أيّاهن جبريل وهي آيات تتعلق بالأمور التشريعية المتصلة بالحلال والحرام، وكذلك كتب التفسير التي تظهر أن النبي لم يشرح ويفصل كل شيء، لذا فمهمة الجماعة متابعة تأويل النص القرآني، كما أن الملاحظ في تفسير الآيات لم يكن بالرجوع فقط لأقوال وأفعال الرسول بل تعلقت أيضا بأسباب النزول والظروف التي حدثت فيها تلك الوقائع، لهذا يكون التأويل من التكاليف الكبرى على الأمة ويرى الكاتب بأنّه فرض كفاية عليها بوصفه بحثا عن آثار المقصد الإلهي من خلال الإشارات الموجودة داخل اللغة، فالدلالة المباشرة لا تعبر بالضرورة بطريقة صحيحة عن الحقيقة بل إن النص القرآني يسمح بتعدد الدلالات للشيء الواحد، فالتأويلات القديمة وطرقها تؤكد أن التأويل شرعي تماما تسمح به لغة النص القرآني وأنه لا يزال هناك الكثير من الجهد التأويلي يمكن إنتاجه.
والتأويل من وجهة نظري هو بوابة الدخول للتقدم والنمو المعرفي والثقافي لدى المسلم إذ يفتح له آفاقا أوسع في التعامل مع قضايا واقعه وتحقيق مفهوم الاستخلاف الذي بمقتضاه تتم المحافظة على القيم الإنسانية الروحية والمادية الفاعلة في تطوره ورقيه، إن تطور المدارس التأويلية المختلفة التي تعطي تنوعا فكريا ومعرفيا ومنهجيا، يقوم بتحريك الكثير من القيم والمعارف الإنسانية والمفاهيم التي يطرحها واقعنا المعاصر، وبالتالي تجعل من المسلم قادرا على تقديم رؤى وأفكار تساعد على صناعة حضارة أكثر تقدما مستمدا كل هذا من الخطاب الإلهي له.
