«فلسفة علم الكلام»

فلسفة.jpg

تأليف - الدكتور محمد الشيخ

قال الأديب والفيلسوف الألماني ليسنج: لو أن الرب كان وضع في يده اليمنى كل الحق، ووضع في يده اليسرى مجرد البحث الذي لا ينتهي عن الحق، وقال لي: "اختر" لبادرت في تواضع إلى يده اليسرى، قائلًا: "أبتي، هات! فالحق المطلق شأن لك وحدك).

من هذه المقولة، ومقولات عديدة أثبتها في مقدمة كتابه، يؤكد الدكتور محمد الشيخ أن لكل مذهب ديني علم كلامه، ولعل التعاطي مع علم الكلام كان أعدل قسمة بين أهل الملل؛ فقد تعاطته الأمم على اختلاف، لا مللها فقط، وإنما على تباين نحلها أيضًا.. وما كانت حضارة الإسلام ببدع من هذا.

فكما كان لكل طائفة مذهبية إسلامية فقهاؤها الذين يجتهدون في نشر مذهبها، فكذلك كان لها متكلموها الذين يذبون عن عقيدتها. فلقد كان للإباضية متكلموها، كما كان للإمامية متكلموها. ولقد كان للظهرية متكلموها، مثلما كان للباطنية متكلموها. هذا فضلًا عما كان للزيدية والإسماعيلية وللسنية وللشيعة متكلموهم.. بل حتى كان لزنادقة الإسلام متكلموهم كابن الوراق وابن الراوندي. بل حتى الذين ناهضوا علم الكلام، وجد لهم علم كلام مثل الحنابلة بخاصة، وعلماء الحديث بخاصة.

ويذكر المؤلف أن الذي دعاه إلى تصنيف هذا الكتاب أغراض دينية جمة، منها أن الشبه تكثر بطول الزمان، وتستجد بدروس الإيمان، فيورد أربابها منها ما لم يسبق إليه أوائلهم، وربما يظهرون من المذاهب ما لم يتجاسروا على إظهاره من قبل ، أو يوردون ما ذكره أوائلهم، وربما يظهرون من المذاهب ما لم يتجاسروا على إظهاره من قبل، أو يوردون ما ذكره أوائلهم بعبارات توهم أنها غير الشبه والمذاهب التي ذكرها أسلافهم فيحق على علماء الدين أن يجتهدوا في نصرة الإيمان ويجدوا في دفع ما استجدوه من الشبه، ويبالغوا في إبطال ما أظهروه من المذاهب.

ثم قد يزايد البعض بالقول: إن علم الكلام كان دائما موضوع تجديد، فمع كل متكلم مقتدر مفن فذ، يحدث تجديد في علم الكلام. وأشهر مثال على ذلك ما شهده علم الكلام العربي الإسلامي من تجديد فيما صار يعرف تحت مسمى: "طرائق القدماء" و"طرائق المحدثين". إذ سرعان ما امتزج علم الكلام بالفلسفة امتزاجه الشديد لدى المتأخرين حتى تم الحديث عن (طريقة المتقدمين) في التكلم التي حاولت النأي بنفسها عن التفلسف، رغم وجود بعض الاستثناءات كالنظام مثلاً، وعن "طريقة المتأخرين" في التكلم التي مزجت التفلسف بالتكلم مزجًا شديدًا.

يقول المؤلف: لسنا نقصد بتجديد مواضيع علم الكلام، تجديد النظر في الحجج والحيثيات، وإنما نقصد، فضلاً عن تجدد الموضوعات؛ بحيث لا تبقى دائرةً في بنية مغلقة، تبدأ بباب "العلم" وتنتهي بباب "الإمامة"، تجدد المناهج في تناول موضوعات علم الكلام/ بل إن المنهج أحيانًا والرؤية يكون من أثرهما حتى على الموضوعات بحيث يجددانها تجديدًا. هذا مع تقدم العلم أن هذه المباحث المستجدة لم تكن متاحةً للأقدمين من المتكلمين.

ويأتي هذا الكتاب بتقديم منهجي لمعالي الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالله السالمي، وزير الأوقاف والشؤون الدينية، مؤكدا أن القراءات السابقة لعلم الكلام كانت تعتمد الرؤية الأفقية؛ بيد أن كتاب محمد الشيخ يمتلك رؤيةً أفقيةً أوسع في إبراز مفاهيم علم الكلام، بدءًا من قراءة مفهوم الإنسان، وتعريفاته عند المتكلمين والفلاسفة، مقسمًا مقولاته إلى إحدى عشرة مقولة؛ مثل: الإنسان المعتقد، والإنسان المؤمن، والإنسان المتكلم، والإنسان العاقل، والإنسان الفاعل.. إلى آخره. ثم كان الباب الثاني عن العالم، الذي قسمه إلى حالات مثل: العالم المحدث، والعالم المنظم والعالم الثابت.. والعوالم الممكنة، والعالم المتناهي. ثم جاء الباب الثالث، وهو أقصرها بعنوان: "النظر في أمر الله: باب القول في الله"، وينقسم البحث في هذا الباب أيضًا إلى الإله المفكر فيه، والإله المعروف، والإله المجهول، والإله الخفي، والإله البدي، وما حقيقة الله، والإله الموصوف.

أما عن المنهج المعتمد في تأليف هذا الكتاب، فقد استعرض معالي الشيخ عبدالله السالمي أيضًا في توطئته لهذا الكتاب، الله، بقوله: حدد منهج الكتاب في تمهيد طويل قدم به المؤلف لإبراز تقسيماته، والمفهوم كانت لديه عدة اهتمامات. الأول: أنه اختار المنهج الإبستمولوجي في هذا التقسيم الجديد؛ لكي يمكن عد علم الكلام فلسفةً للدين. واستشهد على ذلك بعدة مؤلفات كتبها محدثون ومعاصرون فيما يتعلق بفلسة الاعتقاد. والثاني الذي يعلل اختيار هذا المنهج هو هم التجديد؛ إذ ذكر كثيرون أنهم يريدون التجديد في هذا الأمر؛ لكنهم لم يفعلوا. والثالث وهو أساسي يتصل بعلائق علم الكلام بمبحث الوجود الإلهي عند الفلاسفة القدامى والمحدثين. وهذا ما تمت ملاحظته في الكتاب، فهنالك كانت عناية شديدة من جانب المتكلمين بالرد على الفلاسفة، الذين كانوا يعدون أعمالهم برهانية، بينما ظلت أعمال المتكلمين خطابية. وعلى مدار الكتاب، أوضح المؤلف مديات التداخل بين الفلاسفة والمتكلمين. مما لم يكن يستدعي -من وجهة نظره هذه- الردود المتبادلة. والرابع هو هذا الزهد المتأخر في علم الكلام، وبروز مقولة "دين العجائز" بين علماء المسلمين للبعد عن نقاشات المتكلمين.

ومن الالتفاتات الجديرة بالوقوف عندها في هذا الكتاب محاولة المؤلف التعريج على علم الكلام عند الإباضية، مؤكدا أنه أحد المذاهب الكلامية الذي طالما غمط حقه بين مؤلفي الموسوعات الكلامية المحدثة. ويرى محمد الشيخ أن المذهب الكلامي الإباضي ظلم بظلم مزدوج: من جهة أولى، عانى ما عاناه علم الكلام بعامة، داخل فضاء الفكر الإسلامي من بعض إهمال ما طال تحقيق نصوصه فحسب، وإنما تعدى ذلك ليمتد إلى أن ينال أيضًا من درسها كما ينبغي، ومع من ينبغي أن تتدارس معه من أهل الاختصاص النادرين. ومن جهة ثانية، فإنه حتى داخل فضاء العلوم الإسلامية، التي اجتهد الإباضيون في التدوين فيها، ما حظي علم الكلام من الاهتمام من لدن العديد من العلماء إلا بالنزر اليسير. ولعل من بين أسباب ذلك تشدد بعض علماء الإباضية وليس كلهم، شأنهم في ذلك شأن العديد من علماء أهل السنة، في أمر الاطلاع على كتب المخالفين في الملة والمذهب. إذ ثبت في علم الاجتماع الديني أنه ما من جماعة دينية إلا ولها أرثوذكسها (عقديوها).

يكفي أن ننبه ههنا إلى مثالين دالين بهذا الصدد؛ الأول: هو مثال الشيخ أبي الربيع سليمان بن يخلف النفطي القابسي (ت: 471هـ /1079م)، وهو من علماء القرن الخامس الهجري، فقد كان الرجل (شديدًا) على من يقرأ كتب المخالفين ممن لم ترسخ قدمه في العلم، مخافة الفتنة والاختلاف. ولئن كان الأول قد قيد عدم الاطلاع على كتب المخالفين -وهو شرط من شروط إنشاء علم الكلام؛ إذ لا جدل ديني كلامي (لاهوتي) من غير ما معرفة بكتب المجادلين – بعدم الرسوخ في العلم، فإن البادي أن الثاني أطلقه، وهو الشيخ عبدالله بن عيسى الوسياني -وكان للشيخ الأول معاصرًا- حيث كان بدوره (شديدًا) على من يقرأ كتب أهل الخلاف، هكذا بإطلاق، مهابة الاختلاف. ثم إنه اشتهر عن علم الكلام أيضًا استعصاؤه على متعلمه ووعورة مأخذه، حتى إن الشيخ ماكسن بن الخير (ت: 491هـ /1097م) حكى عن فترة تعلمه فقال: "لما توجهت إلى جربة برسم الطلب، جزت على الشيخ أبي محمد [عبد الله بن مانوج]، واستشرته بأي فن أبتدئ: بالكلام أم بالفروع؟ قال: اقرأ الجميع، قلت: فإن قصر فهمي؟ قال: فدينك علم الفروع).

وفي الأخير.. ومن نافلة القول فلإن خطة هذا الكتاب تنهض على ثلاثة أمور، وما من كتاب من كتب علم الكلام الإسلامي -وعى صاحبه بذلك أم لم يع- إلا ونظر فيها:

  1. النظر في أمر الإنسان: باب القول في الإنسان.
  2. النظر في أمر العالم: باب القول في العالم.
  3. النظر في أمر الله: باب القول في الله.

------------------------

- الكتاب: "فلسفة علم الكلام".

- المؤلف: د. محمد الشيخ.

- الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية - سلطنة عُمان.

- الطبعة الأولى: 1441هـ/2020م.

أخبار ذات صلة