« بصمة: كيف للحمض النووي أن يحدد شخصيتنا؟ ».. لروبيرت بولمين

71-uxC+TV8L.jpg

طلال اليزيدي *

* كاتب عُماني

قريبًا، سنتمكَّن من معرفة إذا ما الأطفال حديثو الولادة سيكونون عُرضة للإصابة بالاكتئاب، والتوتر، أو انفصام الشخصية خلال فترة حياتهم، سوف نتمكَّن من التعرُّف على ما إذا كان أطفالنا سيعانون من صُعوبات القراءة، ويُصبحون عُرضة للسمنة المفرطة، أو مُعرَّضين للإصابة بألزهايمر في فترة حياتهم المتأخِّرة. رساله الكتاب حقيقة تتمحور حول التحديد الجيني للشخصية "فالحمض الوراثي ليس كل الاهتمام، بل هو جلُّ الاهتمام فوق كل الأشياء الأخرى المحدِّدة لشخصيتنا مُجتمعة، "فالوالدان الجيدان يُنجبان أطفالًا جيدين؛ لأنَّهم جيدون على المستوى الجيني وليس الشخصي"، المؤثِّر الرئيسي في شخصيتنا ليس أي مُؤثر أو أي حمض وراثي، بل المؤثر الشخصي في تحديد شخصيتنا هو الحمض الوراثي منقوص الأكسجين الكروموسومي.

رُوبيرت بولمين يتوقع ذلك، في كتابه "بصمة"، ويجادل بأنَّ معرفتنا لمستقبل شخصية أبنائنا إذا ما كانوا عُرضة للاكتئاب أو انفصام الشخصية من خلال تحليل مسبق للحمض النووي الوراثي DNA قبل الولادة، سيُمكننا من التعامل والتخطيط بشكل أفضل لمستقبلنا ومستقبل أبنائنا.

بولمين أوضح أن ما يُسمَّى بالرعاية الطبيعية -من رعاية منزلية وبيئة مشجعة نوفرها لأبنائنا- لا تُؤثر على نمو الأشخاص الذين نُحب. بولمين استطرد بأنَّ الرعاية المنزلية، وكذلك البيئة المدرسية لا تُؤثر على مُستقبل أطفالنا؛ سواء إذا أصبحوا طيِّبين أو قاسين، سعيدين أو كئِيبين، أغنياء أو فقراء، وبهذه النظرية بولمين يُوضِّح أنَّ الأطفال في فترة النشأة مُتساوون في الفرص من ناحية التكوين الشخصي إلى حدٍّ ما، لكنَّ الفارق الوحيد الذي يُحدِّد شخصيتنا ومستقبلنا هو الحمض النووي الوراثي المستورث من والدينا، وأنَّ التكوين الشخصي خلال مراحل حياتنا خارج سيطرتنا؛ لأنه مُشفَّر في الحمض الوراثي.

بولمين درس جينات الشخصية على مدار 45 سنة، وهو يعتبر من الرائدين في دراسة التوائِم المتطابقة في المحتوى الوراثي الناشئة في عوائل مختلفة، ويُقَارن تلك النتائج بتوائم أخرى نشأت في نفس العائلة. بولمين أكد أنَّ في كلا الحالتين التطابق في المحتوى الوراثي ليس إلا 99% التي يشترك بها كل البشر على كلٍّ حال. هذه الدراسات تطلَّبت عشرات السنوات وآلاف التوائم. بولمين وأصحابه فحصوا التأثير النسبي للجينات والبيئة -فيما يُعرف بالطبيعة الخلقية والرعاية- على تكوين الشخصية، وقد أكدوا أن الجينات دائما تنتصر.

بولمين كتب بتحفُّظ مع الثورة الجينية المستمرة التي بلا شك سوف تغير من حياتنا ومجتمعاتنا. المجتمعات يجب أن تكون واعية وحذرة من الإساءة في استعمال البيانات الجينية حتى الآن، إضافة إلى ذلك التعطش للوصول إلى البيانات الجينية الشخصية من الجانب الرقمي المظلم للفيسبوك وجوجل، كذلك شركات التأمين الصحي متعطشة أيضا للوصول إلى معلومات كهذه. التفكير بأن مجتمعاتنا الجديدة ستكون قادرة على التحكم بالبيانات الجينية الشخصية دون وقوع نتائج سلبية تفكير مفرط بالتفاؤل، وبولمين وصف نفسه بالمتفائل والمتشائم في هذا الشأن.

الجينوم البشري الكامل تمَّت سَلْسَلته والتعرُّف على كامل القواعد النيتروجينية المكونة له في العام 2004؛ وذلك يعني أول سلسلة للحمض النووي البشري المحتوي على ستة بلايين قاعدة مكونة للحمض النووي DNA لشخص ما.. ذلك المشروع الضخم تطلب مئات العلماء في أكثر من عقد، وكلفهم أكثر من بليونين جنيه إسترليني، اليوم سلسلة الحمض النووي لبشر ما بشكل كامل يتطلب حوالي أقل من 1000 جنيه إسترليني، هذه النهضة في التكنولوجيا ساعدتنا على معرفة كيفية تأثير حمضنا الوراثي على شخصيتنا، وسيكولوجيتنا، وسلوكنا.

البصمة الوراثية لشخصيتنا تتحدد في الـ1% من الـDNA الذي في الأصل يُفرِّق بين البشر، والتأثير الجيني على شخصيَّتنا يظهر من آلاف التغيرات الجينية الطفيفة على حِمضنا النووي، بدلا من جين أو عدد من الجينات المعينة. هذا الحجم الكبير من التغيير يجعل كلَّ واحد من البشر فريدا جينياً. هذا التغير الجيني الطفيف يعرف بالتغيير النيوكليوتيدي المفرد (single nucleotide). لدينا حاليا معلومات قليلة عن كيفية تغيير هذه التغيرات الأحادية للسلوك في أدمغتنا، ولكن جميعها تشكل 50% من شخصيتنا، والبقية يشكله "الأحداث الشخصية الغير ممنهجة المصادفة التي لا تترك تأثيراً دائماً"، العلماء الآن قادِرُون على تحليل بيانات تغيرات النيوكليوتيدات الأحادية SNPs المرتبطة بصفة معينة، والوصول إلى نتيجة تُعرف بالنتيجة البولوجينيه polygenic score تشير إلى إمكانية إصابتنا بالاكتئاب، والتوتر، وانفصام الشخصية أو البدانة.

حاليا.. القوة التوقعية للنتيجة البولجينية محدُودة نوعاً ما. النتيجة البولوجينية الحالية قادرة على توقع تغيرات جينية نسبتها 11% مرتبطة بالتفوق المدرسي، و7% للذكاء، و7% للتعرض لانفصام بالشخصية، و1% مرتبطة بمعظم التغيرات الشخصية في المجتمع. لكن بزيادة عدد الأشخاص وحجم البينات، فإن النتيجة البولوجينية ستكون قادرة على تحديد الـ50% من التغيرات الجينية المرتبطة بتحديد الشخصية في حمضنا النووي، أما الـ50% من التغيرات المؤثرة في تكوين الشخصية فيحددها الأحداث الشخصية غير المُمنهجة، والتي نتعرض لها في حياتنا، لكنها لا تشكل تغيُّرا دائما وإنما لحظيًّا كما أوضح بولمين.

النتيجة البولوجينية ببساطة تعبر عن قيمة تقديرية وليس تحديدية لصفة شخصية من المحتمل أن تتكون خلال المرحلة الحياتية؛ فعلى سبيل المثال نسبة بولمين البولوجينية للإصابة بانفصام الشخصية هي 85%، ونسبته بالتفوق في التحصيل الدراسي هي 94%، وهي تبدو مناسبة لبروفيسور في كينجس كوليج بلندن.

بولمين يقترح استخدام التعليم الشخصي الممنهج ليليق بشخصية طفل ما بالنسبة لحمضه الوراثي، ويرجح أن تعاملنا مع شخصية ما من الممكن أن تصاب باضطراب مستقبلا. كما يجب أن يكون مثل تعاملنا مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة كالتوحد، وبولمين يدعو الإخصائيين النفسيين إلى الانتقال من مرحلة تشخيص الاضطرابات النفسية إلى تشخيص تدريجي للشخصيات يعتمد على النتيجة البولجينية؛ فمِن وجهة نظر بولمين كل الأطفال يحتاجون إلى عناية خاصة، فكيف لنا أن نعرف احتياجاتهم الخاصة دون معرفة شخصيتهم، ولمعرفة شخصيتهم يتطلب الأمر معرفة ما يخبؤه محتواهم الوراثي.

أما بالنسبة لتأثير الرعاية على شخصيتنا متوسط التأثير على كل المجتمع فسيكون قريبا جدًّا من الصفر، وقد تكون أنت سعيد الحظ الذي سيتمكن من تفعيل تلك النسبة الضئيلة لتؤثر على شخصية طفلك من خلال الرعاية. بولمين ينصح باستغلال تلك النسبة الضئيلة لكنه أيضا ينصح بجعل الأطفال أن يتركوا لتكوين الشخصية المشفرة في أحماضهم النووية وتركهم للتوجه للفرص المناسبة لهم جينيًّا.

مثلما قال بولمين: "جِنّيُّ الجينوم خرج خارج الفانوس، وحتى لو حاولنا حشوه بداخل الفانوس فلن نتمكن من ذلك". التطور المتسارع في مجال الجينوم البشري فتح آفاقا جديدة للمجتمعات في شتى المجالات، لكن فكرة بولمين في الحقيقة خاضعة للتحديد الجيني فقط بشكل كبير دون الإشارة إلى التأثير البيئي على الشخصية. مجله الـ(nature) انتقدت كِتابه، مشيرة إلى أن أهمية التعليم، والبيئة المنزلية، والحمية الغذائية للطالب تؤثر جميعها على التحصيل الدراسي بشكل مباشر جدا؛ فالكلُّ يعلم مدى تأثير سُكَّر الدم في التأثير الذهني، وكذلك الصدمات في فترة الطفولة كفقدان الأبوين أو التعنيف الأسري من الأبوين سوف يترك بالتأكيد جانبا مظلما في شخصية الطفل الناشئ، لكن بولمين يتجاهل كل هذه الظروف أثناء فتره النشأة ويعتبرها بالأحداث الشخصية غير الممنهجة التي تحدث مصادفة في حياة الطفل، لكنها لا تترك أثرا. لكن بكل بساطة للرد على نظرية بولمين، انظر إلى مجتمعات السجون وسوف تلاحظ أن معظمهم لم ينشأوا في بيئة اجتماعية وتعليمية جيدة.

في الحقيقة، بولمين قلَّل من مدى تأثير رسالته ومدى دعمها للحتمية والحياه غير العادلة، فإذا كان المحتوم حصريا في الجينات فلمَ التعب من المحاولة للوصول لهدف معين أو اكتساب مهارة معينة؟ في الحقيقة بولمين صادق في أنه كلما زادت العدالة الاجتماعية كانت التغيرات الجينية المؤثرة في الشخصية أكثر ظهورا؛ فعلى سبيل المثال العدالة الاجتماعية بين الجنسين في الدول الاسكندنافية سمحت بالعدالة بين الذكور والإناث في مجالات العمل بالأخص الأعمال التي تتطلب جهدا بدنيا. لكن من الواضح أيضا أن التأثير الأسري من رعاية وغيرها يؤثر على حياه الطفل الناشئ. ليس الأسرة فحسب بل حتى المجتمع من حوله يؤثر على حياه الطفل، والتعنيف الأسري، والصدمات العاطفية للطفل في فترة النشأة تترك أثرا مزمنا؛ فشخصيًّا أختلف مع بولمين بأن هذه الصدمات تؤثر بتغيير لحظي ليس له أثر حتمي، بل هذه الصدمات قد يكون لها أثر أزلي واضح يجب التخلص منه وتخطيه ليتمكن الطفل من العيش بسلام بعد حادثه ما شنيعة.

بولمين أيضًا أوضح أنَّ نظريته لا تستخلق طبقة معينة من البشر الأذكياء؛ لأن الذكاء يتوارث فيما نسبته 50%؛ أي أن الأذكياء سينجبون أشخاصا بمستوى متوسط من الذكاء، فمهما كان ذكاء الشخص توارث الذكاء سيكون دائما بشكل متوسط. على كل حال، كونك قد كُرِّمت بذكاء فوق المستوى الاعتيادي؛ فذلك جائزة بحد ذاته. بولمين يوضح أنه يفضل اصطفاءً طبقيًّا مبنيًّا على الذكاء للوظائف التي تتطلب مهارات عالية، ولا يفضل مُجتمعات طبقية تُفرِّق بين الناجحين والمخفقين؛ فالفارق بين الحالتين جليٌّ. ولعل بولمين قد بالغ في تقدير دور الجينات في تحديد الشخصية، لكنها بالفعل قد تكون دليلا مهما لناقش مستقبلي لا ينتهي.

وختاما.. فإنَّ كتاب "بصمة" قد يكون إلى حدٍّ ما بطريقة غير مقصودة خارطة طريق لمجتمعات رجعية؛ أفكار بولمين توفر وجهة نظر للمتوجهين لترك طرق وأساليب تعليمية موثوقة لتحسين مستوى التحصيل الأكاديمي للطلاب المحرومين اجتماعيا واقتصاديا؛ ففكرة بولمين ليست إلا تحديد شخصية طفل ما بطريقة الطب الشرعي، مبنية على نتائج خوارزمية بولجينية. شخصيات الأطفال ستتحدد منذ الولادة بناء على حمضهم النووي الوراثي، والتوقعات والفرص لحياة هؤلاء الأطفال ستتحدد أيضا، والموارد والتجارب ستنفق من اليوم الأول، قبل أن يكون لهؤلاء الأطفال فرصة لتبيان معدنهم.

----------------------------

- الكتاب: "بصمة.. كيف للحمض النووي أن يحدد شخصيتنا".

- المؤلف: روبيرت بولمين.

- الناشر: The MIT Press، باللغة الإنجليزية - 2018.

- عدد الصفحات: 288 صفحة.

أخبار ذات صلة