تباطؤ النمو

9781911116806.jpg

جيورجوس كاليس

محمد السالمي

ظهر مصطلح "تراجع النمو  أو تباطؤ النمو" في المدارس الإيكولوجية وغيرها من المدارس الغير تقليدية في الاقتصاد كنقد لفكرة النمو الاقتصادي. يدعو هذا التوجه إلى انكماش الاقتصادات من خلال الحد من الإنتاج والاستهلاك ، معتبرا إمكانية القيام بذلك دون التأثير على الرفاهية. ورغم قدم هذه الفكرة ، فقد أعطتها الأدبيات الحديثة شكلًا جديدًا من خلال الجمع بين مختلف التخصصات والمدارس الفكرية في صياغة نقدها الأساسي ومقترحاتها  حول علم الإيكولوجيا وتداخلاتها بين التخصصات. والهدف من هذا الكتاب هو تلخيص عناصرها الأساسية في شكل مختصر وموجز وبسيط. إنه ينطوي على انحسار جذري في مجال الاقتصاد البيئي، بالإضافة إلى تحديد أفكاره الرئيسية، يستكشف ما قد يحتاجه الاقتصاد للانتقال إلى وضع يسمح له بالازدهار دون نمو. حيث يرى كاليس في كتابة "تراجع النمو" بأن النمو الاقتصادي لم يعد مرغوبا فيه؛ فتكاليفه تفوق فوائده، ويدعو إلى تحول الاقتصادات بحيث تنتج وتستهلك أقل، بشكل مختلف وأفضل. جيورجوس كاليس يشغل منصب أستاذ الاقتصاد البيئي والإيكولوجيا السياسية في جامعة برشلونة.

 

في هذا الكتاب، والذي يتمحور في ستة فصول، يقدم جيورجوس كاليس دليلاً واضحًا وموجزًا ​​للأفكار المركزية لنظرية النمو، ويستكشف ما قد يحتاجه الاقتصاد للانتقال إلى وضع يمكنه من الازدهار دون نمو. يدرس الكتاب كيف تتحدى المفاهيم السائدة للاقتصاد من خلال نظرية تراجع النمو وكيف تستمد الحركة من شبكة متعددة الأوجه من الأفكار عبر التخصصات لإلقاء ضوء جديد على العملية الاقتصادية. تتم مناقشة الادعاءات المركزية لأدبيات النمو إلى جانب بعض الانتقادات الرئيسية لها. سواء كان الشخص يوافق أو لا يوافق على انتقاد النمو الاقتصادي، يوضح كاليس كيف أنه يثير أسئلة جوهرية حول طريقة عمل الرأسمالية التي لم يعد بوسعنا تجاهلها. كما يتضمن الكتاب فصلاً كاملاً  يضع أسس فهم مختلف للاقتصاد  باستخدام رؤى ومفاهيم من الأنثروبولوجيا واقتصاديات إيكولوجية ونسوية وماركسية، وأيضاً سياسية. حيث يتطرق إلى بعض الأسئلة الصعبة هناك، مثل بناء فكرة الاقتصاد أو نظرية القيمة. في الفصل الثالث، يستخدم هذه المفاهيم لإعادة النظر في أصول ونتائج النمو الاقتصادي. ثم بعد ذلك في الفصلين الرابع والخامس يتحدث بإسهاب حول التراجع النمو الاقتصادي.

 

يوضح كاليس في كتابه لماذا يعتقد أن علينا الابتعاد عن الحلول التكنوقراطية، والذي اقترحته العديد من الحركات البيئية حول الحلول السياسية. يتفق كاليس مع الفرضية الأساسية أن البشر ليسوا منفصلين عن الطبيعة ولكنهم جزء منها، ولكنه يختلف معهم  من حيث الحلول حيث يرى أن التركيز على الحلول التقنية كوسيلة لمعالجة المشاكل البيئية هي الإشكالية بعينها. يمكن لهذا النهج التكنوقراطي للحداثيين البيئيين أن يتتبع جزئياً جذوره في تأطير خطاب التنمية المستدامة في التسعينات، عندما تكون الفكرة أن الجميع فائز والذي  يعتبر أن النمو الاقتصادي متوافق مع الاستدامة البيئية بفضل التقدم التكنولوجي. يقوم كاليس بتفكيك هذه الفكرة ، باستخدام نظرية جيفونس "Jevon's Paradox" والتي ترى كلما يزيد التقدم التكنولوجي، فإن كفاءة استخدام المورد تزيد؛ أي بمعنى تقليل الكمية اللازمة لأي استخدام، وهذا الذي تراه أغلب الحكومات و البيئيين. على سبيل المثال، إذا كانت الآلة تنتج 100 قطعة والذين يعملون في تشغيل الآلة 5  عمال، ولكن بفضل التقدم التكنولوجي، فإن كفاءة الآلة تزداد أي أن إنتاجها يكون أكثر، والذين يعملون في تشغيل الآلة في تناقص.

ولكن ما يجهله الكثيرون  أن معدل استهلاك هذا المنتج أو المورد يرتفع بسبب زيادة الطلب عليه، وعدم وجود أدلة على الفصل المطلق لشرح السبب كما يرى الكاتب. والواقع يشير إلى أنه قد تؤدي التطورات التكنولوجية إلى تأثيرات بيئية أكبر.  يبتعد الكتاب عن الحجج التقنية والإدارية، ولكنه يناقش استخدام الأدوات الإيكولوجية السياسية لاتخاذ قرارات حول ما يعيد الوضع الأمثل إلى العالم الديمقراطي. على سبيل المثال، أن نكون صريحين حول ما إذا كانت استراتيجياتنا البيئية متفقة مع قيمنا كمجتمع.

 

 

الصراع بين البيئة والنمو موجود على الدوا م؛ فبالنسبة إلى "صناع القرار"، لا يمكن التشكيك في قيمة النمو: فالتعدين والحفر والبناء والتصنيع أمر ضروري لتوسيع الاقتصاد. في المقابل، يقف أصحاب البيئة والمجتمعات المحلية ضد هذا التوجه كونه أحادي الجانب. أدى صعود الخطاب السائد حول التنمية المستدامة إلى محو الوعد الجذري للبيئة. إن فكرة الاستدامة التي انبثقت عن مؤتمر قمة الأرض عام 1992 قد عملت على تحييد الصراع بين البيئة والنمو وعدم تسييسه. ومنذ ذلك الحين ، افترضت المفاوضات بين الحكومة والشركات ورجال البيئة البراغماتيين أن الأسواق والتكنولوجيات الجديدة يمكن أن تعزز في الوقت نفسه النمو الاقتصادي وتحمي النظم الطبيعية. لقد تم توجيه المشاكل البيئية إلى حد كبير إلى مجال التحسن التقني.

 

 

 

 يدعو أصحاب نظرية النمو إلى "الخروج من الاقتصاد"، وهي دعوة للتخلي عن التفكير الاقتصادي التقليدي وبناء بدائل قابلة لتطبيق الرأسمالية. ومع ذلك، فإن اقتراح نماذج اقتصادية بديلة لا يكفي. يجب علينا أيضا أن نشكك في وجود مجال مستقل يسمى "الاقتصاد"؛ حيث يرى الكاتب أن "السوق الحرة" ليست عملية طبيعية، وإنما تم بناؤها من خلال التدخل الحكومي المتعمد. كما سيتطلب إعادة تسييس الاقتصاد تغييرًا مؤسسيًا صعبًا ليعيده إلى السيطرة الديمقراطية. يمتنع مؤيدو فك الارتباط عن تقديم أي خطة واحدة لتحل محل السوق "الحرة" اليوم المتمثلة في النمو. وهدفهم هو فتح مساحة مفاهيمية لتخيل وتشجيع العقود المستقبلية البديلة المتنوعة التي تشترك في أهداف تقليص التدفقات المادية للاقتصادات الثرية بطريقة عادلة ومنصفه، ومن المحتمل أن يؤدي خفض هذه التدفقات المادية إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، لا يعتبر الانكماش مرادفاً للكساد، وهي المصطلحات التي نستخدمها للنمو السلبي في اقتصاد النمو. وبدلاً من ذلك، ينطوي تراجع النمو على إعادة التفكير في تنظيم المجتمع الذي أشير إليه بعبارات مثل الحدود والرعاية.

تتضمن مقترحات النمو بشكل عام حدودًا جماعية، مثل الحدود القصوى للانبعاثات الكربونية أو متطلبات الاحتياطي بنسبة 100٪ للبنوك. تُفهم هذه على أنها "قيود ذاتية". علاوة على ذلك، لا يمكن الحكم على الأنظمة الاجتماعية ذات الحجم المحدود والتعقيد إلا بشكل مباشر بدلاً من النخب التكنوقراطية التي تعمل نيابة عن الجماهير، كما أن الوقود الأحفوري والطاقة النووية خطران ليس فقط بسبب تلوثهما، ولكن أيضاً لأن المجتمع الذي يعتمد على الطاقة بشكل مكثف والذي يعتمد على أنظمة تكنولوجية معقدة بشكل متزايد يديرها البيروقراطيون والتكنوقراط ، ستؤدي بنهاية المطاف إلى تفاوت في المساواة مع مرور الوقت وجعل التأثير السلبي على الديموقراطية.

 

يمكن أن تصبح الرعاية السمة المميزة لاقتصاد يعتمد على الإنجاب، بدلاً من التوسع. ففي الاقتصاد الحالي، لا يزال عمل الرعاية يراعي الفوارق بين الجنسين ويتم تقييمه بأقل من قيمته ويدفع نحو ظلم الاقتصاد الرسمي. تستدعي "نظرية تراجع النمو" التوزيع المتساوي لعمل الرعاية وإعادة تركيز المجتمع حوله؛ فالاقتصاد القائم على الرعاية يتطلب عمالة مكثفة لأن العمل البشري هو الذي يعطيه قيمته. وبالتالي لديها القدرة على تعويض البطالة المتصاعدة اليوم مع تعزيز مجتمع أكثر إنسانية. كما تطرق الكاتب إلى النفقات غير المنتجة للفائض الاجتماعي أي كيفية تخصيص الحضارات لفائضها ، والنفقات التي تنفقها فوق ما هو ضروري لتلبية الاحتياجات البشرية الأساسية ، حيث أن هذا التوجه يمنحها طابعها الجماعي. خصص المصريون فائضهم إلى الأهرامات، وأوروبيو العصور الوسطى إلى الكنائس. في الحضارة الرأسمالية اليوم، مع تراكم الفائض واستثماره لإحداث مزيد من النمو ، يتحول ديسكن إلى أعمال خصخصة للاستهلاك. وبما أن الحد من الاستهلاك المفرط وحده من شأنه أن يغذي المزيد من الادخار والاستثمار، فإن الدينامية تذهب لتقليص الفائض بشكل جذري ونشره في المجتمع حيث يبتكر المواطنون طرقًا جديدة غير ضارة لتوزيعها ، وطرقا تساعد على بناء المعنى المجتمعي والجماعي.

 

وفي سياق آخر، تم التطرق هناك إلى مجموعة كبيرة من الأدلة التي توضح كيف يهدد النمو الرفاه البيئي والاجتماعي. إن استمرار النمو الاقتصادي يجعلنا أكثر احتمالا لتجاوز مساحة التشغيل الآمنة التي تحددها حدود الكوكب أو البيئة التي نقتات منها، مما يجعل الحياة أصعب للجميع. على الرغم من أن "النمو الأخضر" أصبح عبارة عن كلمة طنين في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يزال متناقضاً. إن تركيزها على تعزيز كفاءة الانتاج يخلق المفارقة؛ فانخفاض المتطلبات من الموارد يؤدي إلى انخفاض التكاليف من خلال منظومة العرض والطلب، ويكون هناك انتعاش في استهلاك الموارد، وهذا جزء من الديناميكية الأساسية للرأسمالية: زيادة الإنتاجية تحرر الموارد التي يتم استثمارها لتوفير المزيد من النمو. كما أن استمرار النمو الاقتصادي في الدول الثرية يثبت أنه ضار بالرفاهية. وكما ناقش الكاتب، فإن "سوء" الازدحام والجريمة وغير ذلك من الآثار الجانبية الغير مرغوب فيها، تزداد بسرعة أو بنسبة أسرع من نمو الناتج المحلي الإجمالي. ومن هنا فإن إعادة التوزيع، وليس النمو ، هو ما يحسن الرفاهية في الدول الغنية. علاوة على ذلك ، وعلى الرغم من النمو الاقتصادي الكبير ، فإن الناس في الولايات المتحدة ومعظم بلدان الغرب هم في أحسن الأحوال أكثر سعادة بشكل هامشي مما كانوا عليه في الخمسينيات. الأثرياء أكثر سعادة من الفقراء، لكن الثروة ، في المجموع ، لا تترجم إلى مستوى أعلى من السعادة لأن التطلعات تزداد أيضًا وتزداد المقارنات مع مستويات المعيشة الأعلى. لا يمكن للنمو إطالة الرغبة في السلع الموضعية ؛ فقط إعادة التوزيع والقيم الجديدة يمكنها فعل ذلك.

يظل هذا الكتاب مصدراً قيماً للمهتمين بالاقتصاد البيئي، حيث يجمع بين المبررات والرؤى حول تباطؤ النمو في رواية متماسكة. وهي تتناول القضية المتجددة: إذا لم يتعلم المجتمع البشري تقليص بصمته المادية ، فإن العواقب ستكون وخيمة، ومن هنا يأتي كاليس ليجيب كيف يمكن معالجة هذه المهمة؟. يتعامل الكاتب مع الانتقادات الموجهة "لتباطؤ النمو"، حيث كان واضحًا بشأن الحاجة إلى مزيد من العمل لتحسين الاتساق والجدوى.

----------------------------------------

 اسم الكتاب: تباطؤ النمو

أسم المؤلف: جيورجوس كاليس

الناشر: Columbia University Press

سنة النشر: ٢٠١٨

اللغة: الانجليزية

عدد الصفحات: 176 صفحة

أخبار ذات صلة