فيلابراتو عبد الكبير
للكاتب مهر علي رصيدٌ من خدمات جليلة في مجال التدريس والصحافة والإذاعة؛ حيث تقاعد أخيرًا بصفته مديرا لمحطة "كوزيكود" التابعة لإذاعة الهند العامة. وله مسرحيات حازت جوائز من إذاعة الهند، قبل أن يعمل فيها رسميا. وهذا الكتاب دراسة اجتماعية عن جماعة مسيحية في أمريكا تسمى "آميش"، الذين يعيشون حياة بدائية بعيدين عن كلِّ المرافق والتسهيلات التي تُوفرها التكنولوجيا الحديثة، لا يستخدمون سيارة ولا كهرباء ولا ماكينات حتى ساعة اليد. لا يركب أحد منهم الطائرة، إذا سافر أحد في الطيارة سيتم حتمًا إخراجُه من الجماعة ويتعرض للمقاطعة الشاملة، جميع وسائل الإعلام من التليفزيون والمذياع والحاسوب والهواتف ممنُوعة عندهم، جماعة دينية تعيش اليوم كأنها في منتصف القرن السابع عشر مُتمسكة بتقاليد غريبة، قضَى مع أفرادها الكاتب فترةً في مناطقهم للتعرف عن كثب على أساليب حياتهم المغلقة. وهذه الطائفة المسيحية مُنشقة من المسيحيين الجدد الذين يُعرفون باسم "أنابابستيت" التي نشأت في القرون الوسطى. تأسَّست طائفة آميش في العام 1693 على يد قس سويسري يُسمى يعقوب أمان، الذي توفي في العام 1730. وسميت الطائفة بـ"آميش" نسبة للكلمة الأخيرة "أمان" في اسم أبيهم الروحي يعقوب أمان.
في البداية، كانوا يعيشون في سويسرا والألزاس (Alsace) الفرنسي وجبال ألمانيا. لم تعترف بهم الكاثوليك والبروتوستانت من الفرق الرئيسية المسيحية، بل اتَّهموهم بالكفر والهرطقة؛ الأمر الذي جعلهم عُرضة لكثير من الملاحقة والمضايقة حتى للحكم عليهم بالإعدام مِمَّن هيمن على الديانة المسيحية في تلك الحقبة؛ حيث اضطروا لأن يلوذوا بالفرار بدينهم من مناطقهم الأصلية إلى أمريكا وبالتحديد إلى بنسلفانيا. اختاروا أمريكا لأنَّ عدد سكانها آنذاك كان ضئيلا جدا، وأنها كانت خالية ممن يُعادونهم في معتقداتهم. وفي بداية القرن الماضي، كان عددهم خمسة آلاف فقط، ولكن خلال تسع عشرة سنة بلغوا ستًّا وستين ألفا. وعند طلوع القرن الجديد، أصبحوا مائة ألف وستة آلاف نسمة. وحين اكتمل العقد الأول من القرن الحالي، أصبحوا زهاء مائتي وخمسين ألفا. وبعد ست سنوات من هذا تجاوزوا ثلاثمائة ألف وثمانية آلاف. وهم الآن مُوزَّعون على 22 منطقة مأهولة في الولايات المتحدة وفي ولاية أونتاريوا في كندا. تعيش أقدم جماعة من الآميش في محافظة "لانكستر" منطقة نائية زراعية في الولايات المتحدة استوطنها الآميشيون الأوائل في العشرينيات من القرن الثامن عشر.. الكثير منهم لجأوا إلى تلك المنطقة هربا من الاضطهاد الديني في أوروبا.
يُعدُّ الآميش عموما من المسيحيين، إلا أن انتماءهم الطائفي مُتنازع فيه. يضمهم المؤرخون في الطائفة البروتستانتية المحافظة، وفي الحقيقة يتبع الآميش نفس العقائد المسيحية وطريقة الحياة التي يتبعها المسيحيون الآخرون، يؤمنون بنفس المبادئ الأساسية المسيحية التي تحتوي الثالوث من الإله الواحد الشامل الأب والابن وروح القدس، كما يؤمنون بأن الإنجيل كتاب مقدس منزل من عند الله، وأن العباد جميعهم مُذنبون، وأن المسيح هو الطريق الوحيد لنجاتهم. لكنهم يختلفون عن التيار الرئيسي في تفاصيل هذه النقاط وتأكيداتها. وتتميَّز هذه الطائفة بالتشدد والغلو في العقائد والممارسات الدينية. ولو أن الآميش تفرقت إلى عدة فرق، وغرق بعضهم في يمِّ الزمان، إلا أنَّ الأغلبية منهم ظلت مُتبقية في حيز الوجود، خاصة ما يسمى الآميشيين التابعين للنظام القديم (Old Order Amish)، وهم الآميش الحقيقي المحافظ جدًّا الذين يتمسكون بالمبادئ الآميشية دون أي مصالحة، رافضين جميع التغيرات التي تتطور على مسرح الحياة. ويختلف عنهم "الآميش البيشي" (Beachy Amish)، و"الآميش آندي ويفار" (Andy Waever Amish)، و"الآميش التابع للنظام الجديد" (New Order Amish).
"ليست الطفرة هي الغنى، ولكن طفرة السلام هي الأساس لغنى النفس، ليست التسهيلات بل القيم هي التي تجعل الحياة ذات معنى".. وبنقل هذا المأثور الآميشي يفتح الكاتب باب حياة طائفة الآميش المغلق، ويغربل الأبيض والأسود منها أمام القراء. ولما وصل حدود "لانكستر"، وجد الشمس تغرب، وجميع البيوت فيها مغطاة تحت العتمة، لا يوجد إلا ضوء باهت يبث من الشمعات والفوانيس التي تولع بزيت التراب. القرية كانت تكاد تميل إلى سبات عميق. فكيف يلتقي الناس في تلك العتمة المكثفة؟ فاضطر لأن يتولى على عقبيه إلى قلب مدينة "لانكستر". الضجيج من حركة السيارات وزحمة الناس لا تزال في أوجها حينئذ بدون نهاية. فوجد لافتة كبيرة مكتوبًا عليها "أغراض آميش". كان متجرا تُباع فيه أغراض مصنوعة من قبل جماعة الآميش بدون استخدام المكائن. حيث إن بيعها مباشرة وسط المدينة ممنوع؛ حسب تقاليد الآميش كانت تُعرِض للبيع بواسطة الوكلاء. لما سأل الكاتب الشخص الذي كان يجلس في واجهة المتجر عن قرية الآميش، وضح له أن الآميشيين جميعهم ربما قد استغرقوا في النوم العميق بعد أن بذلوا جهدهم الجهيد تحت شمس النهار، وأن أفضل الأوقات للقاء معهم هو يوم الأحد؛ لأن يوم الأحد يوم العطلة لهم لا يشتغلون فيه، حتى إنهم لا يذهبون إلى الدكاكين لشراء الأغراض، ولا تكون بينهم أي صفقات ولا معاملات مالية بتاتا. اللقاء مع حشودهم سهل جدا يوم الأحد؛ حيث يجتمعون لأداء الطقوسات الدينية والمآدب الجماعية في مكان واحد. فأجَّل الكاتب رحلته إلى مناطق الآميش إلى يوم آخر. فلما دخل حدود قرية الآميش حسب هذا الاقتراح، اختلفت المناظر أمامه؛ حيث برزت له مزارع واسعة وأنهار صغيرة وميادين مغطاة بالعشب ومراع عريضة وأغنام وأحصنة وبيوت الفلاحين الصغيرة. رأى لوحة مكتوبا عليها "قرية الآميش الحقيقية". تلك كانت معرضا يُعطي الزوار صورة عن أسلوب حياة الآميش. اشترى تذكرة الدخول لمشاهدة ما يوجد داخل المعرض، فوجد فيه نماذج من بيوت الآميش الخشبية، وكل شيء يتعلق بهم، معظم الأشياء مصنوعة يدويًّا من الخشب. وخارج البيت ينتظر الزوار "بيت الينبوع" -بيت صغير يقع بأعلى مكان من غدير- يليه بيت آخر خاص لطبخ الأسماك واللحوم باستخدام الدخان، وتقرب منه ماكينة تشتغل بالرياح ومعمل حداد، وساقية تروي المزارع ومدرسة بحجرة واحدة وهلم جرا. ولو لم تكن فيها هواتف ومراوح وكهرباء، إلا أن فيها ثلاجات وغسالات وسخانات وفرن، لكن كلها تشتغل إما بالغاز أو زيت التراب أو الحطب أو الفحم. مشاهدة النماذج في "القرية" لم تروِ غليل الكاتب. لأنَّ هدفه لم يكن مشاهدة نماذج جامدة إنما هو هنا لمشاهدة نماذج حية. ولما فرغ من التجول في "القرية" تذكر قول الرئيس الأمريكي الأسبق "كالفين كوليدج" (Calvin Coolidge) "كل شيء في أمريكا ذو طابع تجاري يدر الأرباح". وخرج من "القرية" وفي رأسه شكوك أثارها هذا القول. أليست الدوافع وراء هذه "القرية" أيضا الفكرة التجارية الملتصقة بذهن الأمريكان؟ ليس هدفه مشاهدة مجرد نماذج مصطنعة من حياة الآميش، بل المشاركة المباشرة في تجارب حياتهم اليومية والتعايش معهم قدر الاستطاعة. فبرزت أمام عينيه محطة عربات تجرها الأحصنة، فورًا ركب على إحدى العربات يقودها آميشي اسمه "جون". استقبله جون وهو يقول "فيلكوم فيلكوم" (Wilkum Wilkum)، هكذا يتلفظ الآميشيون كلمة الترحيب الإنجليزية (Welcome)، يتحدث أغلب الآميش ثلاث لغات: لغة قريبة من الألمانية تسمى "بنسيلفانية دانش"، وهي لغة يستعملونها داخل منازلهم، ولا يتحدثون مع أقاربهم وزملائهم إلا بهذه اللغة، هي لغتهم الأم. ولغة أخرى قريبة أيضا من الألمانية تسمى "هاي جيرمان"، وهي لغة يستعملونها في صلواتهم. أما اللغة الثالثة، فهي الإنجليزية، ويستعملونها داخل مدارسهم.
وبعد أن ركب الكاتب عربة جون، بدأت حياة الآميش تتفتح على لسان جون الذي يقودها إلى ثلاث مستوطنات، تحمل أسماء ظريفة وغريبة، ويكتظ فيها الآميش-الفردوس (Paradise)، و"طائرة على يد" (Bird in Hand) و"الجماع" (Intercourse)، كل اسم يناسب فكرة الآميش. ألا يعتقدون أن حياتهم البسيطة هي حقيقة بمثابة الحياة في الفردوس؟ أوليست طائرة على يد أفضل من طائرتين في السماء حسب اعتقادهم؟ وللوهلة الأولى يلاحظ الكاتب زي السائق جون. ها هو ذا آميشي نمطي حي أمام عينيه بلحية طويلة وشارب محلوق تماما، لا أزرار لمعطفه، بل توجد عليه ثقوب وحلقات فقط، وسرواله العريض الذي يطير في الهواء كطائرة ورقية ليس له جيوب تماما مثل قميصه الأسود الطويل بدون الكمّين. وعلى رأسه قبعة مصنوعة من القش. هذه هي ملابس الآميشي. وللآميشيات أيضا ملابس خاصة يتميزن بها عن غيرهن. البنات البالغات يلبسن زيا تقليديا محافظا جدا، لا يلبسن إلا ملابس فضفاضة ذات أكمام طويلة. ثم إنهن متحجبات، ولا يسمح لهن بقص شعرهن، ويجب عليهن غطاء رؤوسهن جميع الأوقات. المتزوجات يلبسن الغطاء الأبيض بينما تلبس غير المتزوجات الغطاء الأسود. وفي الأماكن العامة والاحتفالات يلبسن الغطاء الأسود. حتى في غرفة النوم يغطين رؤوسهن، ولا يراها أحد غير أزواجهن. غطاء البطن والصدر واجب. المجوهرات الذهبية والزينات ممنوعة. حتى العرائس لا يلبسن الذهب. لا يشتري الآميش الملابس من الأسواق. جميع الملابس للأسرة تقوم بخياطتها النسوان داخل البيت ما عدا المعطف الخاص بالعروس تتم خياطته من قبل الخياط الآميشي.
ماذا عن موقف الآميش من السياسة؟ ليس لهم موقف محدد من السياسة. لأنهم لا ينتمون إلى أي حزب سياسي، ولا يرشحون أنفسهم في الانتخابات، ولا يُدلون بأصواتهم إلا في الانتخابات البلدية؛ وذلك أيضا فقط إن كانت لهم قضية تختص بهم. لا يهتمون بعضوية في أي أندية أو نقابات كما لا يهتمون بتأمين حياتهم؛ لأن الدنيا التي تتلألأ بُرهة ثم تزول فجأة كالبرق لم تكن أبدا أكبر همهم، ولأنهم لا يجمعون المال ولا يعددونه ولا يكنزونه قناطير مقنطرة؛ لأن كنوزهم ليست في الأرض، بل في السماء حسب ما ورد في العهد الجديد: "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ؛ حيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم الكنوز في السماء؛ حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارق ولا يسرقون". لا يقبلون شيئا مجانا حتى من الحكومة، لا يقصرون في استيفاء الضرائب، ولكن وفقا للقوانين فقط لا يحفظون بطاقات التأمين الاجتماعي، لا يتحاكمون إلى محاكم ولا يخدمون في الجيش، لا يوجد عندهم الطلاق، هكذا تكون حياة الآميش مجموعة من "الللآت". الأمانة هي شعار الآميش. يحكي جون حكايةَ آميشيةٍ ذهبت ذات مرة إلى "مال" كبير لشراء حاجات، وبعد أن جمعت الأغراض وصلت أمام "الكونتر" وفتحت المحفظة. ففوجئت بعدم الفلوس داخلها، إنها قد نسيت أن تأخذها، ولكن لحسن حظها كان دفتر الشيكات موجودا، ولكن المحاسب على "الكونتر" أبى أن يستلم الشيك، فاتجهت إلى كابينة المدير، فسألها ما إذا كانت لديها بطاقة المستهلكين الخاصة بذلك "المال"، أو بطاقة ائتمان، أو بطاقة البنك، أو رخصة السياقة. لم تكن لديها أي منها. كيف توجد لديها رخصة سياقة وهي ممنوعة من السياقة؟ وأخيرا سألها المدير: ماذا لديها إذن؟ فردت عليه: الأمانة. فطلب منها أن تسامحه وتسلم الشيك.
ومن ميزاتهم أيضًا أنهم لا يبنون كنائس تختص بهم؛ لأنهم يعتقدون أن الرب الإله لا يسكن في كنائس صنعتها أيادي العباد، وبما أنَّ الرب هو مالك السماوات والأرض وما فيها جميعًا، فلا يحتاج إلى كنائس يُعبد فيها، فكل بيت آميشي كنيسة.. يوم الأحد، جميع الآميشيون يجتمعون في أحد بيوتهم للصلاة والأذكار والأدعية، يوم في بيت ويوم آخر في بيت آخر مُناوبة. ليس للرهبان دور في إمامة صلاتهم، بل يختارون من بينهم بالقرعة من يؤمهم في الصلاة ويخاطبهم بتعليمات دينية. لذلك؛ يجب أن يكون كل آميشي ملمًّا ببعض التعليمات الدينية الأساسية؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يخرص مسبقا على مَنْ تكون مهمة الإمامة نتيجة القرعة. ولهم قساوسة وشمامسة ولكن ليسوا معينين من قبل سلطات عُليا مثل الفاتيكان. وتعرف قوانين الآميش باسم "أوردنانغ" لكنها غير مكتوبة. ولديهم مجلس فتوى مكوَّن من مجموعة مشائخ من كبار السن المتدينين يطلق عليه "أولد أوردر".
وأطفال الآميش لا يذهبون الى المدارس العامة، وفي العام 1972 تم إصدار قانون في الولايات المتحدة يُستثنى الآميش بموجبه من التعليم الإلزامي، ولهم مدارسهم الخاصة يتلقون فيها العلم بمقررات محدودة، لا تدرس فيها علوم التكنولوجيا ولا الفنون الجميلة، تدرس فيها العلوم الضرورية مثل الحساب ولغات الآميش الثلاثة التي سبق ذكرها. يُديرونها بغير أي مساعدة من الحكومة. وجدير بالذكر أن هذه المدارس ليست مدارس دينية بمعنى الكلمة، في الحقيقة لا يدرس فيها الدين بتاتا، بل تدرس فيها الحياة وما يحتاج إليه في الحياة؛ مثل: الزراعة وخصائص التراب للزراعة. ويستمر الأطفال في التعليم حتى سن الرابعة عشرة فقط حيث ينصرفون بعدها إلى تعلم الحرف والمهن والزراعة، الزراعة هي العمود الفقري لحياة الآميش، وهم أفضل الفلاحين ليس في أمريكا فقط، بل في العالم أجمع.
نقرأ في الكتاب أيضًا تفاصيل عن تقاليدهم المتعلقة بالزواج والجنازة والاحتفالات، وميزتها المشتركة البساطة.. الأسرة بالنسبة لهم حصنٌ حصين، وعقيدتهم في القيم الأسرية راسخة الجذور، لا يميلون عنها قيد أنملة. ولنظرة جماعة الآميش تُشابه كبير بنظرة الغاندي إلى الحياة في كتابه "الهند المستقلة"؛ حيث يرسم خريطة مستقبل الهند مبنية على الاقتصادية الزراعية بعيدة عن الصناعات الكبيرة المزودة بالتكنولوجيا الحديثة كما يشير إليه الناقد الأدبي محيي الدين كاراشيري في مقدمة الكتاب، وهذا لا يعني أن حياة الآميش خالية من العيوب، وقد أشار الكاتب إلى السلطة الذكورية المهيمنة على حياتهم، كما أشار إلى المعاناة الصحية التي تُعاني منها هذه الجماعة؛ نتيجة عادات زواجهم من الأقارب.
----------------------
- الكتاب: "على هامش حياة جماعة آميش".
- المؤلف: مهر علي.
- الناشر: (DC BOOKS) كيرالا، باللغة المحلية الهندية، 2018م.
- عدد الصفحات: 139 صفحة.
